المنشور

الحكومات والمعارضة‮.. ‬المهمات المنسية‮!!‬

للوهلة الأولى‮ ‬يبدو الحديث عن الاصلاحات في‮ ‬عالمنا العربي‮ ‬مغريا للكثير من الباحثين والمهتمين بالشأن العام،‮ ‬على اعتبار أنه‮ ‬يمثل باستمرار مدخلا مهما لنقد ما هو قائم من سياسات ولا نقول استراتيجيات،‮ ‬لأننا جميعا في‮ ‬العالم العربي‮ ‬حكومات ومعارضة نفتقد بشدة للتفكير بشكل استراتيجي‮ ‬في‮ ‬مجمل قضايانا الوطنية الملحة منها والمؤجلة،‮ ‬كما أن تلك السياسات ان وجدت فهي‮ ‬في‮ ‬واقعها سياسات مهترئة في‮ ‬مضامينها وهي‮ ‬من دون أفق،‮ ‬وكثيرا ما تستند الى التنظير الخاوي‮ ‬من أية مضامين حقيقية‮. ‬وكان حريا بنا شعوبا وحكومات أن نستفيد مما حملته لنا مجمل التغيرات الأقليمية والدولية مع مطلع الألفية الجديدة من تباشير تحولات كان‮ ‬يمكن توظيفها بشكل أكبر،‮ ‬ليس فقط للضغط على الحكومات باتجاه تحقيق اصلاحات أولية لا تحتمل التأجيل،‮ ‬استسهالا لمهمة الاصلاح الفوقي‮ ‬التي‮ ‬ربما لا تحتاج الى عناء كبير،‮ ‬وانما لتوظيف كل ذلك لتسهيل اجراء تحولات نوعية وذات معنى حقيقي‮ ‬في‮ ‬طرائق واساليب ادارتنا لعملية الصراع الاجتماعي‮ ‬بشكل عام،‮ ‬وهي‮ ‬المهمة التي‮ ‬تنبهت لها دول وشعوب امريكا اللاتينية تحديدا‮. ‬وبالنظر الى ما تعانيه نخبنا ومعارضاتنا وحكوماتنا ومجتمعاتنا بأكملها وعلى اختلاف توجهاتها الليبرالية واليسارية والقومية والاسلامية من ضياع وتشرذم وخواء،‮ ‬وبالتالي‮ ‬انعدام الحيلة،‮ ‬ويزيد الأمر سوءا هيمنة قوى وتيارات ما أصبح‮ ‬يعرف بالاسلام السياسي‮ ‬على المشهد العام في‮ ‬مجتمعاتنا مع تخبطها المستمر وخصوماتها القديمة الجديدة التي‮ ‬أججت بها كثيرا من نعرات وعداوات واصطفافات ماضوية هي‮ ‬في‮ ‬حقيقتها عبء بل مجموعة أعباء أصبح لزاما على شعوبنا سرعة اجتراح الحلول الممكنة للخروج من متاهاتها المتشعبة،‮ ‬ومع هكذا وضع أضحت شعوبنا بالفعل بين مطرقة الحكومات وسندان تلك القوى التي‮ ‬استولت بسطوة خطابها الفوضوي‮ ‬العدمي‮ ‬والتجزيئي‮ ‬والمتناحر حتى العظم،‮ ‬على اجزاء ومساحات وشرائح مهمة من مجتمعاتنا التي‮ ‬يراد لها ان تغرق طويلا في‮ ‬مستنقعات ملؤها الجهل والتخلف،‮ ‬وبدعاوى الصحوة والعودة الى جادة الطريق،‮ ‬كل ذلك على حساب قضايانا الصغرى والكبرى المعلقة الى ما لا نهاية وسط عالم متغير باستمرار‮.‬
وهنا‮ ‬يجدر القول إن‮ ‬غياب القوى النهضوية الحقيقية الفاعلة في‮ ‬مجتمعاتنا أو تغييبها القسري‮ ‬من قبل الأنظمة السياسية القائمة طيلة العقود الطويلة الأخيرة،‮ ‬قد اسهم بشكل كبير في‮ ‬خلق ذلك الفراغ‮ ‬المهول في‮ ‬ساحات ظلت تلعب فيها وحتى الآن قوى ذات برامج وادوات متخلفة في‮ ‬غالبها،‮ ‬وتحكمها تبعات إرث ثقيل من الخصومة والجهل المستند على تاريخ مثقل بالضياع والتشرذم،‮ ‬يشكل في‮ ‬حقيقته أكبر إعاقة لمجتمعاتنا التي‮ ‬باتت في‮ ‬حاجة ماسة الى برامج نهضوية ذات آفاق عصرية في‮ ‬مضامينها وخطابها العام،‮ ‬بحيث تنحو باتجاه تدشين مهمات التحول الديمقراطي‮ ‬المتلازمة مع ضرورات اشاعة السلم الأهلي‮ ‬حفاظا على مجتمعاتنا من السقوط المتكرر في‮ ‬مستنقعات التطرف،‮ ‬وتكون قادرة على الإبحار بسفننا المتعبة الى شواطىء أكثر أمنا وبحار لا‮ ‬يسكنها الخوف،‮ ‬على أن تحقيق ذلك في‮ ‬حد ذاته‮ ‬يظل مسؤولية استثنائية‮ ‬يجب ان تتصدى لها قوى وتيارات وطنية ذات برامج واجندات ورؤى حقيقية ملتصقة بحاجات شعوبها الحقيقية،‮ ‬بحيث تكون قادرة أولا على امتلاك القدرة على اقناع مجتمعاتها من جديد،‮ ‬والتي‮ ‬طال انتظارها واختلت قناعاتها بدرجة كبيرة بقدرة تلك القوى على الاسهام في‮ ‬قيادة مهمات التحول الديمقراطي‮ ‬وباقل كلفة ممكنة‮. ‬
‮ ‬على أن ذلك لوحده‮ ‬يظل ضربا من الطوباوية وشيئ ليس بيسير من الخيال المفعم بنفس نخبوي‮ ‬كثيرا ما مثل بتقاعسه الممض وتخلف خطابه وتقليديته وارتكانه الى تاريخية لا‮ ‬يمل من الحديث حولها واجترارها من قبل من هم في‮ ‬قمة الهرم النخبوي‮ ‬وصولا لقاعدته،‮ ‬ان لم تقم تلك القوى ذات البرامج والامكانات الكامنة والحضور الايجابي‮ ‬المؤثر المقنع وليس العدمي‮ ‬في‮ ‬المشهد العام بتجذير مضامين واساليب نضالاتها ورفض تبعيتها وذيليتها للماضي‮ ‬الذي‮ ‬عليها فقط أن تتعلم من تجاربه دون أن تقيم له باستمرار حضوره الباهت في‮ ‬كل محفل كما تفعل الآن بعضا من القوى اليسارية والليبرالية والقومية التقليدية،‮ ‬حتى تضمن استمرار ديمومتها وحيويتها بدلا من القبول في‮ ‬المضي‮ ‬في‮ ‬بناء هياكل لا‮ ‬ينقصها المجد التاريخي‮ ‬الحافل،‮ ‬وانما القناعة الحقيقية بالقدرة على تغيير وتطوير رؤاها انطلاقا من تاريخها المليء بالتجارب والعبر،‮ ‬حيث أن مجرد استسهال مطالبة الحكومات هكذا بالقيام باصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية علاوة على الامعان في‮ ‬شتم الأنظمة بمناسبة وغير مناسبة،‮ ‬فان جل ذلك‮ ‬يبقى شعارات عاجزة واداء واجب لا‮ ‬غير‮! ‬تجاه ما تريد ان تدغدغ‮ ‬به تلك القوى من عواطف وأحاسيس جماهيرها المتعبة والمنتظرة الى ما لا نهاية‮! ‬من دون أن تقدم ما هو مقنع حقيقة من بدائل لشعوبها قبل حكوماتها،‮ ‬فان ذلك بحد ذاته‮ ‬يبقى مجرد اضاعة للوقت وامعان في‮ ‬تجهيل واغواء للشارع واستسهال للكلام المباح دون القدرة على اجراء التأثير الحقيقي،‮ ‬حيث أن ذلك‮ ‬يبقى بعيدا كل البعد عن التأسيس لقناعات راسخة لدى الجماهير بضرورات الاصلاح ومراميه والذي‮ ‬بسببه سرعان ما تغادرها‮- ‬اي‮ ‬الجماهير‮- ‬محبطة‮ ‬يائسة بل وناقمة ايضا،‮ ‬تلك اذا مسؤليات قوى المعارضة الحية تجاه حاضر ومستقبل شعوبها،‮ ‬وحتى لا‮ ‬يكون النضال نحو تحقيق الاصلاحات والتحولات الديمقراطية المنشودة مجرد ترف وشعارات لا تستند أحيانا كثيرة الى حقائق موضوعية والتزام متجذر في‮ ‬الوعي‮ ‬العام وقناعات راسخة بضروراته أصلا،‮ ‬وانما ضربا من الوهم والاستهلاك المفعم بخواء فكري‮ ‬يفضحه العجز عن امتلاك القدرة على الاسهام بشكل ايجابي‮ ‬وخلاق في‮ ‬دعم قضية ومهمات التحول الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬مجتمعاتنا التائهة منذ زمن طويل بين عجز وتشنجات قوى المعارضة المتمترسة في‮ ‬مواقعها القديمة الجديدة دون حراك،‮ ‬وقسوة الحكومات وظلاماتها المستمرة وعدم جديتها وقصر نظرها وادمانها لشهوة السلطة وامتلاك الثروات،‮ ‬واكتفائها بدلا من ذلك بلغة شعاراتية محضة لتوجهاتها نحو الاصلاح والتغيير والتي‮ ‬لا تصمد طويلا،‮ ‬وسط عالم‮ ‬يمور بالتحولات من حولنا نحن فيه آخر الفاعلين‮.
 
صحيفة الايام
30 نوفمبر 2008