المنشور

يوم الطفل العالمي‮ ‬والمفارقات الغريبة‮!‬

احتفل العالم الأسبوع الفائت باليوم العالمي‮ ‬للطفل،‮ ‬وكان على قاراتنا الأربع أن تعرض أرقامها المتشائمة ورغباتها وأهدافها في‮ ‬حماية ذلك الكائن البريء والمستضعف،‮ ‬والذي‮ ‬تتم ولادته في‮ ‬عالم ليس بإرادته المجيء إليه،‮ ‬وعندما‮ ‬يخرج لوجودنا علينا رعايته منذ اللحظة الأولى كجزء من مسؤوليتنا وضميرنا الحي،‮ ‬غير انه‮ ‬يفتح عينيه على مجتمعات وأمكنة متنوعة وبيئات وثقافات مختلفة،‮ ‬وكما‮ ‬يقولون عادة أطفال‮ ‬يولدون وفي‮ ‬فمهم ملاعق من ذهب وأطفال‮ ‬يولدون وفي‮ ‬فمهم مرارة الحياة،‮ ‬هؤلاء الأطفال لا‮ ‬ينسجون مستقبلهم وطريقهم الذي‮ ‬سوف‮ ‬يشقونه إلا في‮ ‬مرحلة من مراحل العمر،‮ ‬ولكن الخيوط الأولى من تلك الحياة المبكرة والمناخ الاجتماعي‮ ‬والبيئي‮ ‬لثقافتهم ربما تشكل تلك الحياة أو تنقلهم إلى نمط من الحياة لم تكن خياراتهم،‮ ‬أو‮ ‬يجدون أنفسهم أنهم باتوا في‮ ‬ظروف صعبة وقاسية ستنقلهم إلى وسط مدمر كالجريمة والعنف والانخراط في‮ ‬اقتتال الحروب الأهلية لكونهم أصبحوا مجبرين عليهم كجزء من واقع إنساني‮ ‬مؤلم ومأساوي‮. ‬ما تقدمه الأمم المتحدة سنويا من أرقام وإحصائيات تجعلنا نقف مشدوهين أمامها لكونها جزء من عارنا الثقافي‮ ‬ومحنتنا الإنسانية،‮ ‬فما توظفه الدول من نفقات هائلة في‮ ‬الحروب والأسلحة المتطورة لا‮ ‬يقارن كمفارقات بما تنفقه من مساعدات على ضحايا الحروب أنفسهم فلكل حرب أهلية وإقليمية نتائجها السيئة،‮ ‬فيكون أول ضحاياها هم الأطفال،‮ ‬وكل نكبة وكارثة طبيعية‮ ‬يكون ضحاياها هم الأطفال،‮ ‬بل وكل ظاهرة مجتمعية تعبر عن نفسها لذلك الثراء الفاحش المتناهي‮ ‬يكون الأطفال هم أول من‮ ‬يشاهدون في‮ ‬العالم كفئة مشردة في‮ ‬شوارع الفقر والفاقة‮. ‬ترى لماذا لم‮ ‬يكن السؤال اكبر من عاطفتنا وشفقتنا الإنسانية؟‮! ‬لماذا لم نجعل المشهد العالمي‮ ‬أكثر واقعية لمعالجة الأزمة الناشبة حول تلك الظواهر ونتائجها،‮ ‬فليس لكل تلك المآسي‮ ‬مآخذ أو‮ ‬يد للأطفال فيها،‮ ‬فهم‮ ‬يرضعون قدرهم المنتظر منذ ولادتهم وظروفهم المجهولة،‮ ‬وكأن المجتمع الدولي‮ ‬يقدم لنا مسرحية هزلية لكل حالة مزرية،‮ ‬لعل الروائي‮ ‬فيكتور هيجو‮ ‬يكون حيا بيننا في‮ ‬عصر مازال‮ ‬يناشدنا بإنهاء البؤس والبؤساء دون مماطلة وثرثرة‮ ! ‬هكذا تهزنا أرقام الأمية،‮ ‬وأرقام المشردين في‮ ‬طرق العالم،‮ ‬وأرقام المتورطين في‮ ‬حروب أهلية،‮ ‬وأرقام المتاجرة السوداء،‮ ‬وأرقام المرضى والمعرضين للموت بسبب فقدان الأدوية والعلاج اللازم،‮ ‬وأرقام أولئك الذين‮ ‬يتم تهريبهم تارة بحجة المتاجرة بغطاء التبني‮ ‬وتارة بإنقاذهم من الحروب الأهلية ومنحهم الأمان بعيدا عن أحضان أمهاتهم،‮ ‬أرقام لأطفال‮ ‬يزجونهم رجال الجريمة للجريمة،‮ ‬ويصادرون منهم الطفولة،‮ ‬فكم من جنود ودول محتلة عرّضت الأطفال لواقع قاس إلى درجة لا‮ ‬يمكن تصورها،‮ ‬بل ويصمت العالم دون حياء عن تلك الحصارات ومنع ابسط المستلزمات والضروريات عنهم كما‮ ‬يحدث في‮ ‬في‮ ‬قطاع‮ ‬غزة والعراق وأفغانستان والصومال،‮ ‬فمصير هؤلاء في‮ ‬نهاية المطاف هو الرغبة في‮ ‬الانتقام،‮ ‬ويتحولون إلى مشاريع‮ »‬البشر المفخخين والانتحاريين‮« ‬فكلما فقد الإنسان قيمة الحياة ومعناها الجميل وأهمية وجوده،‮ ‬فانه‮ ‬يجد تلك الطرق الأسهل للخلاص‮. ‬لكَم تدفع القوى المحتلة للجنود الإسرائيليين والجيش الإسرائيلي‮ ‬في‮ ‬الأراضي‮ ‬الفلسطينية المحتلة أطفالها لتعلم كل دروس الكراهية دون مناهج تعليمية‮ !‬،‮ ‬ولكم تزرع أحذية الجنود ودباباتهم صوتا عنيفة‮ ‬يخلق عنفا مضادا كجزء من مفارقة صوتية لتلك الحياة العنيفة والقاسية‮. ‬لكم‮ ‬غنى الأطفال للسماء الزرقاء والفرح والربيع والزهور،‮ ‬غنوا للسلام والسعادة والأمان والرخاء والأماني‮ ‬البعيدة في‮ ‬مستقبل رائع،‮ ‬ولكنهم وجدوا أنفسهم في‮ ‬بلدان مضطربة وفقيرة وبائسة مجرد أرقام‮ ‬يتم إحصائها سنويا،‮ ‬ويصبح الخبز والسقف واللحاف ملاذهم ومبتغاهم،‮ ‬وينتظرون بخوف وفزع تراه في‮ ‬عيونهم،‮ ‬حيث ترصدهم عدسات وكالات الأنباء،‮ ‬مثلما تنقذهم وكالات الغوث بتلك العطاءات الممكنة،‮ ‬لكي‮ ‬يقفوا بين خط الموت والحياة في‮ ‬خيم لا‮ ‬يمكنها مقاومة الريح الباردة ولا وهج طقس قاتل‮. ‬ماذا‮ ‬يفعل أطفال العالم السعداء في‮ ‬الدول الراقية الغنية عندما‮ ‬يرون أطفالا مثلهم مشردين‮ ‬يصرخون من الألم؟‮! ‬ماذا‮ ‬يفعل لو شاهد صدفة‮ – ‬العكس‮ – ‬أطفال الفقراء المشردين،‮ ‬أطفالا آخرين في‮ ‬ضفة أخرى من كوننا‮ ‬يعيشون عالماً‮ ‬مختلفاً‮ ‬وظروفاً‮ ‬وأوضاعاً‮ ‬مختلفة؟ ترى هل بالفعل الأطفال‮ ‬غير المنسجمين والذين‮ ‬يشكلون تناقضاتهم وتناقضات أوضاعهم‮ ‬يفهمون تلك المعادلة الحياتية؟ وهل ما زال الكبار‮ ‬يفهمون تلك المشاهد التراجيدية بحساسية أم أنها تحولت إلى روتين تقليدي،‮ ‬إذ‮ ‬يتنصل الأثرياء وصناع الحروب والأزمات من لعبتهم التدميرية،‮ ‬فتسعى وكالات الغوث بنشر طوق نجاتها للغارقين في‮ ‬المحنة،‮ ‬لعلها تنقذهم من الغرق الكبير والطوفان الإنساني‮. ‬لكم قارنّا بين أطفال المجتمعات الثرية والمستقرة ومشاكلهم،‮ ‬بتلك التي‮ ‬يواجهها أطفال العالم النامي،‮ ‬فلا نملك إلا حسرة الفاشلين والمحبطين،‮ ‬والعاجزين عن تقديم العون،‮ ‬فمأساة الكبار لا تسمح بإنقاذ صغارهم،‮ ‬وإذا ما سمحت بتلك الحدود من الإمكانيات تم مصادرتها،‮ ‬فكم من آباء باتوا عاطلين عن العمل وكم من عائلات شردتها الحروب،‮ ‬وكم من بيوت انتشلها الزلزال،‮ ‬فأحال حياة أناس كثيرين إلى أوضاع مبكية‮ . ‬من حاول انتشال أطفال من مأساتهم بكل الطرق الممكنة،‮ ‬فانه‮ ‬يصبح بطلا لزمنه دون الحاجة إلى خوض بطولات كبرى ونياشين،‮ ‬فقيمة عصرنا الأخلاقية هو أن نصل بهذا العالم نحو تحسين أوضاع البؤساء والفقراء وإيقاف كل أشكال التدمير الاجتماعي‮ ‬والعالمي،‮ ‬فليس معالجة مشاكل الأطفال المتنوعة تصبح سهلة إن لم نصبح قادرين على إيقاف أسبابها الجوهرية العميقة وملامستها من جذورها،‮ ‬وهي‮ ‬في‮ ‬النهاية في‮ ‬يد المنظمات الدولية والدول والمجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬كل مكان من العالم‮. 
 
صحيفة الايام
30 نوفمبر 2008