المنشور

سـمة المرحلة الراهنة في البحرين


بعد سنوات تكاد تقترب من عقد زمنيّ واحد منذ انطلاقة مشروع الإصلاح في البحرين، المتزامن مع دخول العالم الألفية الثالثة، وتشييد مملكة البحرين الفتية ( تغيير الاسم من مشيخة إلى مملكة ) والتصويت على مواد الميثاق الوطني.. لابد من وقفة جرد ‘’حساب الربح والخسارة’’ من مغبة التغيير الكبير الذي حصل -وقتئذ- في البحرين!

لعل أولى انطباعات المواطن ( المنصف / العقلاني / الواقعي ) أنه رغم الفارق البيّن بين المرحلتين؛ ما قبل الألفية وما بعدها، ووضوح أفضلية الأخيرة بلا مواربة أو تردد.. إلا أن درب الإصلاح لم يكن ولن يكون هيّنا وسالكا في أي يوم (خصوصا في السنوات الأخيرة) وغدت حال المراوحة سيد الموقف.. ومرد ذلك بتقديرنا وبصراحة حرية إبداء الرأي والنقد البنّاء المكفولين في بلدنا، يرجع إلى مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية، الداخلية والخارجية.. تتلخص أهمها في الآتي:

)أولا): استفحال الإشكال الديمغرافي لتركيبة المجتمع البحريني وتحوله أو تحويله – عن قصد أو غير قصد-إلى حالٍ مَرَضية مزمنة، بسبب ركون أقوى اللاعبَين ( الحكم والمعارضة الشيعية) إليه كمتكأٍ وسلاحٍ وحيدٍ للدفاع عن الذات تجاه الآخر؛ كليهما لغرض مصلحيّ قصير النظر، مما عمل على ازدياد الفجوة وحال عدم الثقة بين طرفيّ الرّحى، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى اعتصامات واحتقانات وفوضى شبه مستمرة، تفاقمت في الفترة الأخيرة إلى درجة أنه تم اعتقال ومحاكمة عدد كبير من المشاركين في أحداث العنف الأخيرة، كادت مجموعة منهم تسجن لسنوات عدة لولا تدخل جلالة الملك وإصدار أمره السامي بالعفو عنهم.

(ثانيا): يشكل الهاجس الديمغرافي في البحرين الهول الأكبر للدولة ( تشكل الطائفة الشيعية الكريمة ثلثي عدد السكان)، الأمر الذي يبدو فيه الحكم وكأنه مجبرٌ لركونه إلى فن المناورة التكتيكية الآنية واعتماده على خطة ‘’التجنيس السياسي المبرمج’’ للخروج أو لنقل ‘’الهروب’’ من المشكلة الأكثر إلحاحاً – من وجهة نظره- بُغية إعادة التوازن المجتمعي، الأمر الذي يدفعه للاستناد إلى القوى السياسية المحافظة، العتيقة والطارئة في مجتمعنا (الإسلام السياسي بشقيه) والنفخ فيه والتسليم اتجاهه. بجانب استخدامه لورقة الأقلية السنية مقابل الأكثرية الشيعية، مما يؤدي عملياً إلى دق إسفين بينهما على حساب مبدأ المواطنة الصحيح.. وما ينتج عن تلك السياسة – الخاطئة بالطبع- من استشراء ‘’تركيبة طائفية سرطانية بغيضة’’ تنهش في الجسم المجتمعي.. بدل النظرة الإستراتيجية المستقبلية وأولوية مد الجسور مع القوى العصرية ( على ضعفها الحالي )، المعنية أساسا لتدشين مجتمع ديمقراطي مؤسساتي سليم.. بمعنى أن الحل الاستراتيجي المأمول والمأمون صار ضحية المناورة التكتيكية المضرّة!

(ثالثا): قيام حكومة البحرين بجهد ملحوظ في الحدّ من مشاكل البطالة والإسكان وإدرارها المساعدات الاجتماعية وغيرها إلا أنها لم تفلح بعد في الإتيان بخطة إستراتيجية شاملة للتنمية المستدامة؛ اقتصاديا / اجتماعيا / سياسيا / قانونيا / ثقافيا، لتذليل الصعوبات وتسهيل حل المشكلات الاجتماعية المستعصية والمعلقة من عقود طويلة بشكل جذري.. لعل على رأسها ؛ الفساد المالي والإداري / الأرض والسواحل المستباحة / التخطيط العشوائي خصوصا في القرى/ المشكلة البيئية والمائية / مشاكل العمل والسكن والصحة والتعليم والخدمات العامة / التجنيس السياسي المبرمج / وغيرها.

(رابعا): تَشكُّل مجلس نواب ( برلمان منتخب) طائفي / مذهبي الهوى وذكوري التركيب، لم تصل إليه إلا بالكاد امرأة واحدة حصلت على كرسيها اليتيم بالتزكية!..التشكيلة التي انشغلت في طرح أمور ثانوية، ساعدت في نشر الطائفية والفرقة بدل طرحها لحلول جدّية وجذرية للمشاكل الكثيرة. في حين أن مجلس الشورى (مُعيّن) أنجح بمراحل من الأول. وهو يتكون من تشكيلة إثنية من الأخصائيين والأكاديميين، بينهم بضع نساء عصريات، ولو أن المجلس هذا يوجد فيه أيضاً من جاء به الحظ من دون استحقاق أو تأهيل!

(خامسا): تغيير نغمة مركز المنظومة الدولية المعاصرة المتقدمة (الرأسمالية) ورأس حربتها الأميركية من ‘’تصدير’’ ثقافة النهج الديمقراطي المؤسساتي للتخوم الأقل تطوراً، إلى لغة المهادنة المؤقتة، بسبب تداعيات الإعصار المالي الحالي في قلب المركز العالمي وحاجة هذا الأخير للتمويل والمشاركة من قِبَل دول التخوم الغنية، الأمر الذي أدى إلى تلكّؤ وتعثّر عملية دَمَقْرطة ومَأسَسَة الأنظمة السياسية العربية عموماً، التي نجحت – مؤقتا- في استرداد المبادرة والشروع بالهجوم المضاد ( تفكيك مفعول موجة الإصلاح والضغط الغربي )، نتيجة تحول والتباس ميزان القوى الدولي الحالي وعدة عوامل أُخَرْ.

(سادسا): تشرذم القوى السياسية العصرية / الديمقراطية وضعفها الجلي في قراءة تضاريس الواقع المعقد والمتحول. وعدم قناعتها بعد، بضرورة تطوير وتهذيب نظريتها الفكرية المتكلسة، حيث ان جُلّ اليساريين والقوميين والليبراليين العرب لازالوا يعيشون في ‘’جزر الوقواق’’ الخيالية، بعيدين- بُعد السماء عن الأرض- فيما يتعلق بعدم معرفتهم أوضاع بلدانهم الفعلية وفهمهم-القاصر- لسمة العصر، التي لازال اليسار العالمي يعتبرها مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وكأن شيئاً لم يكن، بعد ‘’خراب البصرة’’ واختفاء منظومة اشتراكية كاملة عن الوجود وانتفاء عالم ثنائي القطبية! والقوميون لم يبرحوا بعد فكر وهدف الوحدة الفورية الفوقية المستبدة (البسماركية). أما الليبراليون المحليون فإنهم لم يغادروا بعد مرحلتي المركنتالية والكومبرادورية والرضوخ لمبدأ الخصخصة العمياء اقتصادياً والموروث الإقطاعي ثقافياً، حيث إنهم يعانون التبعية الخارجية والاغتراب الداخلي!

)سابعا): عدم فهم القوى العصرية / الديمقراطية بعد، أصل ومحتوى الصراع الجاري في المنطقة العربية والشرق أوسطية وماهية التناقض الإقليمي الأساس بين منظومة الرأسمالية العالمية من جهة والتركيبات ما قبل الرأسمالية ( القرونوسطية المتخلفة ) المتجسدة في فكر الإقطاع ‘’الديني’’، المعارض من الناحية الرجعية والشكلية للإقطاع السياسي، الممثل للمنظومة العربية الرسمية (وجهي العملة الواحدة). والغريب في الأمر أن القوى العصرية هذه، التي من المفترض الرهان عليها كعامل ذاتي أساس، لحفز ودفع عملية ولوج المجتمعات العربية إلى عصر الحداثة والتنوير العربيَّيْن والاستفادة القصوى من الضغط الغربي على النظام العربي الرسمي، تحولت إلى الدفاع عن برامج قوى ‘’الإسلام السياسي’’ القرونوسطية / الإقطاعية ، المناطحة للرأسمالية المعاصرة و’’المقاوِمة’’ للهيمنة الغربية ( الليبرالية) بسيوف خُرافية ‘’بتّارة’’ في معركتها الوهمية ضد التقدم والتنوير، في سبيل إرجاع عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء وعودة القهقرى للمنظومة السياسية العربية إلى العصور الوسطى، المنهاج الذي لم يدرك خطورته حتى الآن.. لا القوى الراديكالية العربية من اليساريين والقوميين.. ولا النظام السياسي الرسمي!

رُبّ سائل يجادل هنا عن جدوى وعلاقة هذه التداعيات الدولية المعقدة لجزيرتنا الصغيرة، التي قد لا تهمها هذه التفاصيل! نعتقد أن هذه التفاصيل بالذات هي رافعة التاريخ، التي تتحكم بمصيرنا ومصير من حولنا وبسير تطور مجتمعاتنا.. فكلما صغر البلد زاد من تأثير العوامل الخارجية عليه، التي تتداخل بالطبع مع العوامل الداخلية لتشكل كلها حافزاً أو معيقاً للتطوير والإصلاح .. بمعنى أن الظرف الدولي وموازين القوى العالمية والعربية والإقليمية لها الأولية على الظرف المحلي لبلد صغير كالبحرين، فيما إن يشهد بلدنا التطوير والتقدم المأمولين ويقربنا بالتالي من الأيام الأجمل القادمة أم يحدث عكس ذلك تماماً.. المستقبل كفيل بتبيان ما نتوجسه!

الوقت 18 ابريل 2009