المنشور

ازدهار اللغة العربية في العصر العباسي


على الرغم من ان النزعة القبلية ظلت مستبدة بالعرب حتى بعد دخولهم الإسلام، كما ظلت رواسبها متوارثة جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، وان بدرجات متفاوتة، وعلى الرغم كذلك من أنها ظلت في أوج قوتها عشية تأسيس الدولة العباسية، فإنه كما يتبين من دراسة المعالم الخططية لبغداد فإن التنظيم السكاني لهذه المدينة العريقة لم يتم على أسس قبلية “كانتونية”، إن جاز القول بمصطلح عصرنا الراهن، فلم يرد ذكر سوى ثلاثة دروب باسم العشائر العربية، هي درب الأنصار ودرب خزاعة ودرب الأعراب، كما لا تشير المصادر التاريخية والتراثية للمدينة إلى ان أي قبيلة او عشيرة من العرب استوطنت بمجموعها بغداد، وخلا من المدينة تسمية اي منطقة سكنية باسم قبيلة او عشيرة بحد ذاتها.

ومع ان الخلفاء العباسيين استقدموا أقواما غير عرب إلى المؤسسة العسكرية والدواوين الإدارية واستعانوا بخبراء مسلمين غير عرب في الترجمة والطب والفلك.. الخ، إلا أن اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم والشريعة الإسلامية كانت لغة نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والصحابة والأئمة وآل البيت، كما كانت لغة رجال الحكم والإدارة والجيش، كما تم تعميم استخدام اللغة العربية لتكون لغة المكاتبات والحسابات في الدواوين. ولم تكن اللغة العربية حينها عقبة كأداء لدى استخدامها في استيعاب العلوم بمختلف مجالاتها، بل سرعان ما أضحت مع تطور الحضارة العربية – الإسلامية لغة عالمية، ذلك أن اللغة العربية معروفة بثرائها بالمفردات القابلة للنمو والتوسع وان تصبح لغة التجارة كما لغة العلم والفكر والثقافة لم تضاهها في ذلك لغة عالمية أخرى في عصر ازدهارها، ولاسيما مع توسع الامبراطورية العباسية وانتشار الإسلام في أصقاع عديدة وواسعة من المعمورة.

ولعل مما ساعد على تبوؤ اللغة العربية المكانة التي حظيت بها ازدهار الحركة الفكرية وتأليف الكتب العلمية خلال عهد ابي جعفر المنصور اي منذ السنوات الأولى لإنشاء بغداد، فإذا كان الخليفة ابوجعفر المنصور هو اول خليفة عباسي شجع الفلكيين وعمل بأحكام النجوم، كما ترجمت في عهده الكثير من الكتب من اللغات الاجنبية الى العربية مثل كتاب “كليلة ودمنة” وكتاب “السندهند” كما ترجمت في عهده كتب ارسطاطاليس عن المنطقيات وكتاب الارثماطيقي وكتاب اقليدس، وغير ذلك من الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسريانية وغيرها.
ولم يقتصر احياء العلوم والترجمة على عهد المنصور بل امتد الى عهدي المأمون والمتوكل اللذين تواصل في عهديهما الاهتمام بالفكر والتأليف، وكان بعض الوزراء والولاة واصحاب المكانة يشجعون الانتاجات الفكرية والفلسفية باللغة العربية واغدقوا العطايا والهبات على القائمين عليها بصرف النظر عن دوافع كل منهم من ذلك.

ولا شك ان امتداد اللغة العربية الى ميادين العلوم المختلفة زاد من انتشار هذه اللغة عالميا حتى انها حلت محل لغات اخرى كانت سائدة في بعض المناطق قبل دخولها الاسلام كالقبطية في مصر، او ازاحت بعض اللغات الاخرى من مكانتها الاولى كالارامية والبهلوية.. وهكذا فإن السمة الاممية الاسلامية لبغداد انما تمت في ظلال اللغة العربية، فعلوم اللغة عنيت باللغة العربية واستمدت مادتها وثبتت نطاقها فيما يستعمله العرب من دون التقيد بما كان في بغداد وعلوم الدين وبضمنها دراسة القرآن والحديث والعقائد لكنها عالجت المشاكل العامة في زمانها التي تهم العالم الاسلامي بأسره من دون الاقتصار على بغداد.

وطبقا للدكتور صالح احمد العلي فإن النزعات الاقليمية والتعصب لبغداد لم يظهرا الا خلال القرن الرابع الهجري، اذ انه حتى كتب التاريخ عنيت بالتاريخ العريض الشامل للدولة العباسية من دون الانحصار بأحداث ووقائع بغداد فقط، وهذا مما ساعد بدوره ليس على تطور الفكر العربي الاسلامي بتخصيبه بروافد ثقافية انسانية عالمية شتى فحسب، بل انعكاس هذا التطور على تطور اللغة العربية ذاتها وعدم انغلاقها على نفسها كما حصل بعدئذ منذ عصر الانحطاط الحضاري العربي الاول الى عصر الانحطاط الحضاري الراهن.



(انظر، د. صالح احمد العلي، بغداد مدينة السلام، الجانب الغربي، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد 1985).


أخبار الخليج 10 يوليو 2009