المنشور

هل نودع عصر الكاريكاتير والكتابة الساخرة؟

بات واضحاً أن العصر الذهبي لازدهار فن الكاريكاتير السياسي العربي والكتابة السياسية الساخرة أخذ في الانحسار حثيثاً من صحافتنا العربية حتى بات المثقف السياسي العربي يتأسى وهو يقف شاهداً على أفول هذا العصر الجميل لواحد من أجمل أشكال التعبير عن الاحتجاج السياسي بجذب القارئ بشدة ويضفي على الصحافة السياسية العربية نكهتها المميزة التي لربما لا يضاهيها فيها أحد من الصحافة العالمية من حيث خفة الانتقاد ولذاعته في آن واحد، وهذا ما يتطلب مهارةً إبداعية وثقافة سياسية معمقة في آن واحد.
فكم من رسم كاريكاتيري جاء أبلغ في حدة الانتقاد والجرأة من مقال سياسي مما لا يستطيع معه الكاتب السياسي حتى لو وظف كل قدراته الكتابية والبلاغية بلوغه أو توصيل الفكرة النقدية على نحو بليغ وباختزال مكثف وكم صحيفة تعرضت للإغلاق بسبب كاريكاتير لاذع!
وكم من كاتب ساخر استطاع بفضل أسلوب قلمه المميز الرشيق أن يجذب القراء على اختلاف اتجاهاتهم وميولهم السياسية، بل أن يكسب حياد أو مرونة الرقيب بفضل “خفة” أسلوبه إذا ما نجح في اختيار العبارات المناسبة من دون أن ينزلق إلى منزلق التجريح الشخصي أو إلى المحاذير المباشرة للثالوث المحرم على حد تعبير الكاتب السوري الراحل أبوعلي ياسين (الدين والجنس والصراع الطبقي)!
نحن اليوم شهود على انتهاء عصر جيل الرواد في هذين اللونين الصحفيين من النقد السياسي، نقصد بهما “الكاريكاتير” و”الكتابة السياسية الساخرة”، هذا في الوقت الذي أشد ما نكون فيه في عصرنا الحالي الكئيب بحاجة ماسة إلى ظهور جيل جديد يحمل الراية، ولاسيما في زماننا هذا الذي لم يبلغ فيه العرب حدا من الكآبة المرة كالتي بلغها جيل الرواد، ومع ذلك تمكنوا من أن يمتعوا العرب سياسيا بذينك اللونين من الإبداع السياسي في فن الاحتجاج السياسي في الكاريكاتير والكتابة السياسية ويخففوا عنهم من غلواء الهموم السياسية اليومية المتكالبة بتكالب نوائب دهرهم السياسي الراهن من هزائم وتفتت وانقسامات وتعاظم سطوة قيم الأنانية والفردية والمصلحة الخاصة على حساب قيم المصالح العامة والوطنية المشتركة.
وعلى الرغم من أن انحسار فن الكاريكاتير السياسي العربي والكتابة الساخرة يكاد يعم كل الأقطار العربية، فإن هذا الانحسار يكاد يكون أقل نسبيا في مصر التي تعد بلا منازع الرائدة عربيا في ذينك الفنين وإن كانت مصر ليست مستثناة أيضا من مواجهة خطر هذا الانحسار عن صحافتها.
وعلى الرغم من أن صحيفة “أخبار الأدب” المصرية قد خصصت في عددها الصادر 19/7/2009 ملفا موسعا بعنوان: “السخرية في مصر الآن” فإن هذا الملف المهم الممتع خلا للأسف من تحليل لأسباب انحسار الكاريكاتير والكتابة السياسية الساخرة، ومن ثم استشراف مستقبلهما المنتظر أو المتوقع في الأفق المنظور في ضوء ذلك الانحسار الواضح الذي لا تخطئه عين.
جاء في مقدمة ملف “الأدب”: ظل كتّاب السخرية بعيدين عن المشهد الأدبي العام حتى على الرغم من المتعة الهائلة والفورية التي يقدمونها. لنتذكر فقط معلقات “الشعر الحلمنتيشي”، ومكانه بين المدارس الشعرية المختلفة، النتيجة لن تكون مرضية تماماً. ربما يكون الآن الوضع مختلفا قليلا، فجأة أصبحت الكتب الساخرة موضة في عالم النشر سواء ما كان منها مكتوبا على هيئة كتب أم على هيئة مقالات صحفية. شيئا فشيئا يصبح الكتّاب الساخرون أقل خجلاً وهم يصرحون بكونهم كتاباً ساخرين، يصبحون أكثر تصالحاً مع آبائهم وتاريخهم الطويل، وهو تاريخ لا يقتصر فقط على من أطلق عليهم ظرفاء مصر: محمود السعدني، وأحمد رجب، وكامل الشناوي، وعبدالحميد الديب وغيرهم، وانما نتجاوز فيه الرسومات على المعابد المصرية القديمة ونصوص الجاحظ مع أفلام فطين عبدالوهاب ومونولوجات شكوكو مع رسومات صلاح جاهين.
لكن الكاتب الصحفي يوسف الشريف يقول في حوار معه في الملف نفسه: إن مصر الآن بلا نكتة. ويضيف ملف صحيفة الأدب نفسه في تحقيق آخر مطول: إن ثورة السخرية في مصر لم تحدث بالكلمة فقط، بل واكبتها الرسمة أيضاً، مجلات عديدة مهدت لهذا وفي مقدمتها مجلة “كاريكاتير” التي رأس تحريرها مصطفى حسين ثم صحيفتا العربي والدستور اللتان أفردتا على صفحاتهما للكاريكاتير مساحة جيدة وتلتهما “المصري اليوم”.
بحرينيا وعلى الرغم من عراقة وريادة صحافتنا المحلية تاريخيا في المنطقة الخليجية فإن الأسماء التي برزت في هذين اللونين: الكاريكاتير والكتابة السياسية الساخرة، تكاد تنحصر في خمسة أسماء ان صح التقدير: عبدالله المحرقي وخالد الهاشمي فيما يتعلق باللون الأول، وخالد البسام وعبدالمنعم إبراهيم وقاسم حسين فيما يتعلق باللون الثاني، وكل له كما نعلم أسلوبه المميز وأفكاره السياسية الخاصة به في كلا اللونين.
ويبقى السؤال أخيراً ما هو السبيل لأن تنافح صحافتنا المحلية والعربية لحفز من يتبنى كلا اللونين وتشجيع ورعاية المواهب الشبابية الجديدة لكي لا نصبح على عصر وقد انقرض فيه جيل الرواد تماماً؟ ثم هل حقاً أن مسألة مولد جيل جديد يتلقف الراية من جيل الرواد إنما تتوقف موضوعيا على حفز الصحافة؟ وهل نبوغ هؤلاء وإبداعهم في كلا اللونين كانا بفضل تشجيع الصحافة لهم فقط؟

صحيفة اخبار الخليج
30 يوليو 2009