المنشور

المقرحي والغرب.. وحقوق الإنسان

ما من مراقب سياسي يتمتع بحد أدنى معقول من الذكاء والتجرد قد تابع ورصد ردود الفعل الغربية الاحتجاجية وعلى الأخص الامريكية المنددة بقيام اسكتلندا بالافراج عن المواطن الليبي عبدالباسط المقرحي المدان قضائيا بالتورط في تفجير طائرة أمريكية فوق لوكيربي الاسكتلندية عام 1988م الا وتتملكه بالتأكيد صدمة من الذهول يصعب عليه الافاقة منها خلال وقت قصير لاستيعاب ما بلغه الغرب الرسمي وعلى رأسه امريكا من درجة ليس في النفاق وازدواجية المعايير في المواقف تجاه القضايا العالمية المتعلقة بحقوق الانسان فحسب، بل من انحطاط فج مفضوح لعدم التمسك بهذه الحقوق ومراعاتها في بناء المواقف السياسية بعيداً عن الاعتبارات والمصالح السياسية الخارجية الضيقة التي تمليها مصالح النخب والطبقات الحاكمة في تلك الدول الغربية الكبرى، بل لربما احتاج أذكى مراقب سياسي مجرب في العالم الى عقل اكبر من عقله وذكاء اكبر ذكائه ليستوعب هذه الفضيحة الفجة الممجوجة التي وقع وسقط فيها بامتياز الغرب الرسمي، وعلى رأسه حكومة الولايات المتحدة أمام الملأ في دروس حقوق الانسان، هي التي ما انفكت تفرض نفسها شرطيا وقاضيا عالميا لحماية حقوق الانسان في العالم بينما هي الدولة الأولى الأكبر انتهاكاً لحقوق الانسان خارج الولايات المتحدة بوجه خاص وداخلها بوجه عام.
فما ان اعلن القضاء الاسكتلندي – وهو القضاء المستقل في دولة ديمقراطية غربية – افراجه عن المقرحي لدواع انسانية بحتة وطبقاً للقانون الاسكتلندي الذي يبيح مثل هذا الافراج للمدان السجين في الظروف الانسانية حتى سارعت واشنطن بعد دقائق معدودة الى ادانة قرار السلطة القضائية الاسكتلندية من دون ادنى اعتبار او احترام لسيادة واستقلال هذه السلطة القضائية الاسكتلندية في بلدها، وذلك لمجرد ان ضحايا الطائرة المنكوبة ارهابيا أغلبهم امريكيون، هذا على الرغم من التأكيدات الطبية والأمنية والقضائية في اسكتلندا ان المقرحي لم يتبق له عن قضاء نحبه سوى شهرين فقط.
اكثر من ذلك فإن قرار السلطة القضائية نفسه ينطوي على قدر من الازدراء والاحتقار لحياة المقرحي كإنسان حتى بافتراض انه ليس بريئاً، فحقوق الانسان كائناً من يكن ينبغي ان تراعى وان تصان في مختلف الظروف، سواء أكان في السجن أم في الحرية طليقاً، أم في أوقات الحرب ام في اوقات السلم، ذلك بأن السلطة القضائية الاسكتلندية حينما تورد ضمن حيثيات قرارها حرفيا بالافراج عن المقرحي لكي يموت في ليبيا لا في اسكتلندا كأن موت هذا الانسان أضحى اشبه بالوباء الذي ينبغي تجنبه داخل اسكتلندا فإن ذلك لا يعني سوى تعال عنصري حقير متجرد من القيم الانسانية تجاه انسان مريض معذب مشرف على الموت.
لم تتوان مسؤولة في وزارة الخارجية الامريكية في وقاحتها المتجردة من الانسانية عن التعليق فور صدور القرار القضائي الاسكتلندي “ان اطلاق المقرحي لا يخدم العدالة، ومن الضروري ان يكمل المقرحي عقوبته الكاملة وان تنفذ العدالة من اجل ذكرى ضحايا لوكيربي”.
فالعدالة إذًا طبقا لهذا الموقف العنصري الامريكي السادي المتعطش للقتل والتلذذ برؤية مشارفة الخصم على الهلاك حتى اللحظة الاخيرة من حياته هي ان يقضي نحبه صريعاً بمرض السرطان في سجنه من دون خصم أي دقيقة أو شهر من مدة محكوميته.
لكن سلسلة المهازل الغربية لم تقف على أكثر من جهة وأكثر من صعيد عند هذا الحد فقد احتجت واشنطن ودوائر غربية رسمية مختلفة على استقبال المتهم العليل المشرف على الموت استقبالا احتفاليا في بلده، فلم يتوان بذلك هذا الغرب ان يفرض نفسه وصيا على ضمائر شعبه وحكومته في كيفية ما ينبغي ان يكون عليه استقباله وهو يتوكأ على عصا نازلاً من الطائرة بينه وبين الموت أيام معدودة طبقاً للتقديرات الطبية الاسكتلندية.
وفي حلقة اخرى من سلسلة هذه المهازل ثار جدل آخر في اسكتلندا وبريطانيا عما بلغه هذا الغرب من وضاعة تثير الاشمئزاز في التجرد من القيم الانسانية التي لطالما تشدق بها، إذ انبرت أوساط وقوى سياسية للمناكفة الاحتجاجية ضد الافراج عن المقرحي بأن المدة المتبقية على موعد احتضاره من المرض ثمانية أشهر وليست ثلاثة أشهر كما ذهبت اللجنة الطبية والمحكمة بذلك.
لقد نسيت واشنطن، ومعها الغرب الرسمي السائر في فلكها، انها تخلت عن حقوق الانسان منذ اللحظة التي أخضعت فيها القضية للمساومات والصفقات السياسية والمالية ولحست كل مواقفها واجراءاتها التأديبية العقابية ضد طرابلس، واعادت علاقاتها الدبلوماسية معها، وهي أيضاً ضربت بعرض الحائط مصالح وحقوق الشعب الليبي حينما ابتزت قيادته بذلك الابتزاز المالي غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة في قضية مازال يحيطها الكثير من الشبهات والغموض واصبح هذا الشعب في ضائقتين مالية ومعيشية من جراء نهب امواله باسم حقوق الانسان وحقوق الضحايا، والاغرب من كل ذلك ان هذا يحدث في ظل صمت عربي مطبق بل في ظل صمت مطبق لمنظمات حقوق الانسان، العربية بوجه خاص والعالمية بوجه عام.

صحيفة اخبار الخليج
31 اغسطس 2009