المنشور

الأرجوحة اللبنانية المهترئة

أحدثكم من بيروت، وحديث بيروت اليوم مشكلتها الظاهرية – حكومتها التي يجري الحريري محاولة ثانية لتشكيلها. التفاؤل هو الطاغي، إذ تقترب المشكلة من الانفراج الذي يستند بدوره إلى الانفراج الأخير في علاقات س – س كما يقول اللبنانيون، أي السعودية وسوريا، وليس لعربي إلا أن يفرح لهذا التقارب، فهو – بلا شك – ينعكس إيجابا على العلاقات بين البلدين الشقيقين وعلى كثير من القضايا العربية المعلقة من العراق إلى اليمن غير السعيد هذه الأيام، كما ينعكس على لبنان بشكل خاص. دعوني أفسد هذا التفاؤل؛ لأنه هو بالذات ما يخبئ وراءه أزمة لبنان الحقيقية، الأكثر عمقا من أزمته الظاهرية. ليس جديدا بالطبع أن يرتهن حل مشاكل لبنان الداخلية بالاتفاقات والتدخلات الخارجية، لكن اللبنانيين كانوا في نهاية المطاف يحزمون أمرهم ليتفقوا وطنيا على حل ما، ولو جاء أعرجا، مؤقتا، لكن الجديد هذه المرة هو أن لبنان أصبح مكشوفا أمام الخارج كلية. بدأ ذلك مع تبدل أدوار الدول الكبرى صاحبة الأمر والنهي في شأن لبنان الداخلي. كانت فرنسا تصول وتجول في لبنان، لكنها كانت على دراية تامة بتاريخه وحراكه وتوازناته السياسية دائما. أما في السنوات الأخيرة، فتقوم فرنسا بتصفية شاملة لنفوذها وتأثيرها السياسي مخلية الساحة اللبنانية أمام تغلغل نفوذ الأميركي الذي أزاحها بشكل شبه تام، لكنه لا يعرف لبنان كما تعرفه فرنسا. وليس غريبا أن نقرأ في الصحافة خبرا عن عرض السفارة الفرنسية مقرها الصيفي المنبسط على 37 ألف متر مربع في صوفر للبيع بعد أن كان هذا المقر رمز النفوذ الفرنسي الضارب في لبنان، ورغم أن السفارة تنفي وجود أسباب سياسية وراء القرار، إلا أن تراجع الدور الفرنسي في لبنان أصبح مثار جدل داخلي حاد في فرنسا.
هذا التبدل في الأدوار أخذ يهيئ لبنان أكثر ليصبح أرضا خصبة لتصفية حسابات دولية وإقليمية يُلْعَبُ عليها مصير كثير من البلدان والقضايا العربية وقضايا ما يسمى بالشرق الأوسط ‘الكبير’. ألم تقل كونداليزا رايس ذلك صراحة في بداية العدوان الإسرائيلي على لبنان العام 2006؟ وبهذا أصبحت كل القوى الطائفية اللبنانية – بلا استثناء – مُسيَّرة من الخارج وفق ما تقتضيه مصالح هذا الطرف الخارجي أو ذاك. لقد غدا لبنان اليوم أكثر من السابق أسير قيادات طائفية لا تملك قرارها الوطني. وغدا الانغلاق الطائفي أكثر إحكاما. ولم يعد لكل طائفة تشكيلاتها المدنية ومؤسساتها الدينية والتعليمية وقواها العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية والقمعية الخاصة بها، بل، وصدقوا أم لا، أصبح لكل طائفة مصرفها المركزي، وحتى فضائحها المالية الخاصة. ولعلنا قرأنا في صحافة الأسابيع الماضية ما يثبت هذه الحقائق المُرَّة. ومع تناحر القوى الطائفية من أجل اقتسام الحكم على هذا الأساس، فإنها لا تريد أن تترك لأحد مكانا خارجها. العلماني، أكان شيوعيا أو يساريا أو ديمقراطيا، يعتبر خائنا لطائفته أكان سنيا أو شيعيا أو درزيا أو مسيحيا. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة القوى الطائفية وحدها هي التي تستطيع سد بعض حاجات الناس الملحة، وتتحكم فيهم عن طريق تخصيص غيض من فيض المال المتدفق بغزارة من الأطراف الخارجية المؤثرة، غير أنه إن استمر الأمر هكذا، فإن الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة ستظل تطحن لبنان لتحيله إلى دولة فاشلة ورموزه الطائفيين أنفسهم إلى مشاريع شهداء، كما قال الجنرال عون عن نفسه والحريري وهما يتفاوضان على الحكومة المقبلة.
أمام هذا الوضع ليس أمام التيار العلماني الديمقراطي إلا أن يفعل ما يفعله الآن ولو متأخرا ليلملم قواه ويطرح بعيدا عن التجاذبات الطائفية، مشروعه الخاص، الوطني حقا، للخروج بلبنان من أزمته التي تنذر بكالح الأيام. لقد كنت أجد بصيص أمل على هذا الطريق وأنا أستمع إلى محدثي د. خالد حدادة، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني وهو يروي بحماس قصة تحضيرات القوى الديمقراطية لعقد مؤتمر قريب لها تتقدم من خلاله للشعب اللبناني ببرنامجها النابذ للطائفية والداعي لولادة لبنان الجديد. يقول حدادة إن حزبه يستعد وقوى اليسار أيضا للاحتفال قريبا بالذكرى السنوية لانطلاق المقاومة ليقدم في هذه الاحتفالات أعمالا سياسية وفكرية وثقافية وفنية لا لاجترار الماضي، بل لتعطي للمقاومة معنى حاضرا لتطرز ثوب لبنان الجديد الذي يصون مصالح شعبه ويمنع انكشافه أمام التدخلات الخارجية.
 
صحيفة اخبار الخليج
28 سبتمبر 2009