المنشور

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (1)

منذ نحو عقدين والساحة الثقافية البحرينية تشهد اصدارات عديدة متتالية غير مسبوقة تؤرخ لجوانب من تاريخ البحرين الاجتماعي المعاصر، لعل جلها يتناول تاريخ الأمكنة والمناطق، من قرى ومدن، بالاضافة الى تأريخ بعض المهن من خلال تأليفات عدد من كبار التجار.
الولع بكتابة التراث والتاريخ أو الانكباب على قراءتهما هو حالة تمر بها الآن كل شعوبنا العربية، وهي حالة نفسية انسانية طبيعية مفهومة بالنظر إلى ما تعانيه هذه الشعوب من احباط شديد يزداد تعاظماً لما تمر به من انكسار وعجز عن تغيير واقعها المرير في مختلف الاصعدة في مقدمتها الصعيد السياسي الذي يعد في الوقت ذاته بوابة وأداة حل وتغيير سائر الاصعدة الاخرى الى الأحسن، ومن ثم حاجة هذه الشعوب ونخبتها المثقفة إلى التعويض نفسيا عن هذا الواقع الجاثم بالهجرة إلى ماضيها عبر التفتيش عن أوراقه المضيئة سياسيا وثقافيا واجتماعيا.. إلخ.
على أن ثمة مهنتين راقيتين على درجة من الأهمية، هما الطب والمحاماة، من أهم المهن ان لم تكونا اهمها في الالتصاق بهموم وقضايا الناس الاجتماعية، بما فيها تلك التي ترقى إلى مستوى الكوارث المأساوية، سواء على المستوى الفردي ام على المستوى الجماعي. هاتان المهنتان لم يقيض لأحد من الاطباء والمحامين الاستفادة منهما لرصد وتسجيل وتحليل وقائع من تاريخنا الاجتماعي المفعم بمراحل وفترات من المآسي والمصائب والكوارث الانسانية.
ولعل أي مطلع على صفحات من التاريخ الوطني المشرف لعدد من الاقطار العربية قد وجد ان ثلة غير قليلة من الرموز التي كانت في طليعة الحركات الوطنية، سواء ابان الحقبة الاستعمارية ام بعد جلاء المستعمر، هي من المحامين والاطباء، وهنالك من تصدر منهم قيادة احزاب وطنية كبيرة كالقائد الفلسطيني الراحل جورج حبش أمين عام الجبهة الشعبية الأسبق.
وثمة كتاب صدر في سوريا يؤرخ دور الاطباء في الحركة الوطنية السورية.
الاطباء والمحامون، كما ذكرت، فلأنهم يعملون في أكثر المهن التصاقاً بالناس على اختلاف طبقاتهم، وعلى الأخص البسطاء والمعدمون منهم، فهم الاكثر دراية والاكثر إلماما دقيقا بما يموج تحت سطح المجتمع من مآس وكوارث انسانية. لا بل هم الاكثر قدرة على كسب حب وعواطف هذه الشرائح من فئات البسطاء والمعدمين وذوي الدخل المحدود، هذا إذا ما تمتعوا بالاريحية الانسانية الشفافة المقرونة بحبهم العميق الجارف لشعبهم ووطنهم.
وبالتالي فأصحاب هاتين المهنتين هم الاقدر على توثيق وتأريخ سطور من التاريخ الاجتماعي، مستفيدين في ذلك من تجاربهم المديدة الخصبة في احتكاكهم مع اولئك الناس من مرضى او اصحاب قضايا أمام المحاكم، ومستفيدين كذلك بما هو متوافر تحت ايديهم من كم هائل من الوثائق والاوراق، ولو في حدود ما يسمح به القانون او المعنيون بالامراض والقضايا بذلك.
لكن كم طبيبا وكم محاميا من شعبنا روى أو دوّن تجربته المهنية، كجزء لا يتجزأ من تاريخ وطنه الاجتماعي؟ من المؤسف ان نقول لا نكاد نجد احداً منهم تصدى لهذه المسألة في وقت أضحى فيه القابض فيه على انسانيته ووطنيته كالقابض على الجمر، فيما الأكثرية في كلتا المهنتين انشغلت حتى النخاع بتحويل المهنة الى تجارة عضوض والتربح منها بأي وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة، حتى لو قضت على النزر اليسير مما تبقى لها من انسانية ووطنية، بينما القلة هم من وازنوا بين التكسب الحلال من تجارة الطب من دون استغلال وبين المحافظة على انسانيتهم وشرف ضميرهم المهني.
لكن هل يشترط ان يكون الطبيب او المحامي معارضا أو ناشطا سياسيا ليتمتع بالانسانية والوطنية الصادقتين؟ ثم من قال ان كل من كان ناشطا سياسيا في الحركات الوطنية المعارضة بالأقطار العربية هو بالضرورة من تلك القلة القابضة على الجمر في المحافظة على وطنيتها وانسانيتها؟ لذا يكفي ان يكون المحامي أو الطبيب يتمتع بدرجة معقولة من الثقافة العامة، وبضمنها الثقافة السياسية، ويحمل ضميرا مهنيا انسانيا نقيا عصيا على التلوث ليكون انسانا وطنيا مستقلا صادقا في حب وطنه وشعبه حبا جما ولو لم يكن سياسيا ولتكون شهادته بذلك التي يروي ويدون بها سطوراً من تاريخ شعبه الاجتماعي موضوعية صادقة لوجه الله تخلد اسمه على تعاقب الحقب التاريخية المقبلة بفضل سيرته الانسانية الوطنية الوضاءة.
ومن حسن حظ ساحتنا الثقافية ان تشهد هذا العام بروز واحد من هؤلاء القلة الذين نذروا انفسهم لتدوين سطور من تاريخ شعبهم الاجتماعي بكل تجرد وصدق وموضوعية وانسانية ألا هو الدكتور عبدالعزيز يوسف حمزة، وكيل وزارة الصحة السابق الذي باشر فور تقاعده مطلع هذا العام الانكباب على تحقيق هذه المهمة التاريخية الانسانية الكبرى من واقع تجربته المديدة كطبيب، فكانت باكورة وحصاد جهده الأول تمثلا في كتاب “دموع على جزيرة” الذي يتضمن توثيقاً لأبرز الكوارث التي شهدتها البحرين في تاريخها الحديث، وسرعان ما تلاه حصاده الثاني “طبعة البلاد القديم” المتضمن توثيق غرق سفينة في عام 1949م متجهة الى جزيرة النبيه صالح معظم ركابها من البلاد القديم.

صحيفة اخبار الخليج
28 سبتمبر 2009