المنشور

في المسألة الخنازيرية دوليا ومحليا (2-2)

* الاحترازات المحلية
بادئاً ذي بدء، فإنه بصرف النظر عن الوضعين الصحي والطبي اللذين تعيش في ظلهما البلاد بما في ذلك تردي مستوى الخدمات الصحية وتفاقم الضغوط على سقف قدراتها على الايفاء بهذه الخدمات في ظل اختناق سكاني غير مسبوق من القاطنين والمقيمين الاخذين في التزايد المطرد الحثيث غير المسبوق تاريخيا على هذه الرقعة الصغيرة التي تمثل مساحة البلاد، وحيث بات المواطنون اليوم آخر من توجه إليهم مسؤولية الانفجار السكاني وبصرف النظر أيضاً عن كل ما يقال ايضاً عن اوجه الخلل والبيروقراطية والفساد المزمنة في الجهازين الطبي والصحي، فإن ما اتخذته وزارة الصحة حتى الآن من اجراءات احترازية وتحوطات لمواجهة وباء انفلونزا الخنازير تستحق الاشادة والتقدير.
واذا كان يمكن لنا ان نوجهها لأوجه القصور والاخطاء التي تشوب تلك الاستعدادات والاجراءات الاحترازية والعلاجية، إلا انه في وجهة نظري لا ينبغي لنا نحن معشر المواطنين العاديين والمثقفين والكتاب غير المتخصصين ان ندس انوفنا ونفتي في مطلق الاحوال في كل شاردة وواردة وفي كل صغيرة وكبيرة فيما ينبغي ان تفعله وزارة الصحة وفيما لا ينبغي أن تفعله من اجراءات طبية وتحوطات احترازية وقائية. فمثلما اعتدنا أن نسلم أنفسنا لمشيئة الله سبحانه وتعالى والطبيب في تشخيص أمراضنا وتقرير شكل العلاج المناسب، إلا إذا تيقنا على نحو قاطع بخطأ التشخيص او بضرر العلاج المحدد لنا، سواء أكان ذلك مسبقاً أم لاحقاً، فإنه ينبغي لنا أيضاً ان نحترم اجراءات جهازنا الطبي والصحي ومؤسساته انطلاقاً من المثل الشعبي “عط الخباز خبزه ولو باق نصه”، أو “أهل مكة ادرى بشعابها”.
ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد أن ندرك جيداً وألا يغيب عن بالنا أن بلدنا من أكثر بلدان العالم هشاشة ومناعة في مكافحة عدوى هذا الوباء الجديد ومثله أي أوبئة وفيروسات اخرى دولية وافدة تخترق حدودنا من دون تأشيرة مسبقة، ليس بسبب عدم كفاية اجهزتنا الصحية والطبية لاستيعاب هذا العدد الكبير المتضخم من المقيمين والوافدين والمواطنين الجدد فحسب، بل لأن بلدنا الجزيرة المحدودة الرقعة الجغرافية التي هي من اصغر بلدان العالم مساحة تشكل، في تقديري، أفضل تربة خصبة وحاضنة بيئية لاستقبال الفيروسات والاوبئة العابرة للقارات على اختلاف انواعها لا فيروس إنفلونزا الخنازير فحسب، لا، بل تعد جزيرتنا محجرا جغرافيا وبائيا فريدا من نوعه لاحتضان تلك الفيروسات وتخصيبها وتكاثرها لا محجرا صحيا لعزلها. إذ ان فرص سرعة تنقل العدوى بين الناس لاحتكاكهم واختلاطهم اليومي في الاسواق والمجمعات والمدارس والمؤسسات والوزارات بسبب هذه الرقعة المتناهية الصغر التي يتحركون عليها ولالتصاق كل مناطقها ومدنها ببعضها بعضاً، اسرع من تنقلها بين الناس في أي بلد آخر. وهذه الجزيرة الصغيرة تستقبل يوميا أو اسبوعيا آلاف الوافدين من بيئات مختلفة كعمالة أجنبية وسياح وعابرين ترانزيت ومواطنين جدد.
واكبر دليل على ذلك فإن روسيا التي تعد اكبر دولة في العالم مساحة فإنه بفضل مساحتها الشاسعة هذه لم يصل عدد المصابين لديها بالعدوى الى عدد المصابين لدينا ولم يتوف عندها حتى الآن أي انسان بسبب هذه الإنفلونزا في حين توفي عندنا عدد من المصابين، ناهيك بالطبع عن دور تفاوت تطور الخدمات الطبية والعلاجية بين دول العالم.
اكثر من ذلك فنحن من اقرب والصق البلدان للجارة السعودية التي تحتضن على ارضها الحرمين وتستقبل سنويا ملايين الحجاج من العالم في موسم الحج الوافدين من مختلف الاعراق والبيئات والدول، المتخلفة الفقيرة والمتحضرة الغنية على السواء. هنا إذ نشكر وزارة الصحة لقرارها بجعل التطعيم ضد انفلونزا الخنازير الزاميا لكل العازمين على الحج الى بيت الله في هذا الموسم الوشيك، وحيث ان موسم الشتاء ايضاً على الأبواب فإن من الأهمية بمكان ان نطرح التساؤلات التالية:
اولا: ما هي الخطوات والاجراءات التي اتخذتها الوزارة لاعلان ما يشبه حالة الطوارئ في تفعيل كل الاجراءات والاحتياطات الاحترازية لكلا الموسمين، ولموسم الحج بوجه خاص؟
ثانيا: مع تقديرنا لما بذلته وزارة الصحة حتى الآن من جهود لمواجهة جائحة انفلونزا الخنازير وعلاج المصابين بها الا ان الحملة التوعوية الاعلامية والاعلانية والتثقيفية حول الفيروس وعدواه وحجم مخاطره وسبل الوقاية منه وفرص العلاج منه، وسلامة اللقاح المعطى للمواطنين، خاصة ان جمعية الاطباء نصحت به، وكذلك التوعية بضرورته لكل المواطنين والمقيمين وعدم جعله خياريا في مطلق الاحوال، نقول ان الحملة التوعوية الاعلانية والاعلامية والتثقيفية الشاملة بما في ذلك طبع كتيبات بمختلف اللغات واقامة ندوات ومحاضرات وعرض افلام.. الخ مازالت حملة قاصرة لا تتماشى مع حقيقة كون بلدنا هو من أضعف بلدان العالم في مكافحة العدوى للأسباب المتقدم ذكرها آنفاً.
ثالثا: لما كانت بلادنا المحدودة الرقعة تستضيف على أرضها مئات الآلاف من الوافدين والمقيمين من العمالة الاجنبية والخبراء والمؤهلين لاكتساب الجنسية وجزء كبير منهم قادمون من بيئات آسيوية وافريقية بالغة التخلف ويحملون بسبب ذلك عادات ومسلكيات غير صحية بل معدية كتدني وعيهم بأهمية الاستحمام الدائم والنظافة وكعدم اكتراث العاملين منهم في المطاعم وفي دكاكين الفطائر والسمبوسة والمخابز الشعبية فإنه من الأهمية القصوى بمكان في تقديرنا اعلان، ان جاز القول، حالة الطوارئ في ادارة الصحة العامة باعتبارها اكثر الجهات في وزارة الصحة تقع عليها المسؤولية الرئيسية في مواجهة الجائحة ومن ثم تفعيل اقسام البيئة وصحة الاغذية وقسم المختبرات على مدار الساعة بأقصى طاقة ممكنة وتفعيل حملات التفتيش في الاسواق والمطاعم والمدارس حتى لو تطلب الأمر زيادة عدد المفتشين وتأهيل اعداد منهم بشكل سريع مؤقت طارئ.
لنتذكر هنا بأن الكثير من عادات العمالة الآسيوية السيئة التي منعت في الامارات التي تستقبل اعداداً هائلة منها اكبر من بلادنا مازالت منتشرة في أسواقنا وشوارعنا مثل عادة البصق العلني امام الملأ من السيارات أو في الشوارع والاسواق، كما ان التوعية بخطورة عادة العناق او التقبيل مازالت دون المستوى المطلوب بل ثمة كثيرون يستخفون بها.
واذ نحيي مجدداً ونشيد بكل ما اتخذته وزارة الصحة من اجراءات فإن الآمال تحدونا ايضاً في تضافر كل الجهات الاهلية ومؤسسات المجتمع المدني مع جهودها المشكورة، وعلى الأخص المعنية منها بالشؤون الصحية والبيئية.

صحيفة اخبار الخليج
28 اكتوبر 2009