المنشور

لوحة السباك!

في فصول السيرة الذاتية التي كتبها الراحل جبرا إبراهيم جبرا ونشرها في كتابه »شارع الأميرات« نقل عن المستشرق البريطاني دنيس جونسون الذي عاش في بغداد في أربعينيات القرن الماضي ديفيز، ذهوله للروح الوثابة، المتمردة التي شاهدها في فناني وأدباء بغداد يومذاك، وبلغ به الإعجاب حد أنه قام بترجمة قصص لعبدالملك نوري وفؤاد التكرلي ولجبرا نفسه إلى الانجليزية. لكن ما أثار استغراب صاحبنا هو ذلك الكلام المتواصل عن الوجودية، ويقول جبرا إن الانجليز معروفون بعزوفهم عن الانجرار وراء الصرعات الأدبية على خلاف الفرنسيين مثلا، لذا بدا دنيس مستغرباً من هذا الاهتمام في بغداد بسارتر وكامو وغبرييل مارسل وسواهم، ولم يكن يجد تفسيراً لهذا الاهتمام من قبل أناس لا يقرؤون الأعمال الفرنسية إلا عن طريق الترجمة. لذا فإنه اقترح على جبرا خطة ماكرة للإيقاع ببعض مريدي الوجودية يومذاك، وضمنهم الشاعر بلند الحيدري الذي كان لايزال شاباً يافعاً، حيث طلب دنيس من جبرا كتابة قصيدة غريبة، غريبة جداً، بصورها ورموزها ولغتها، وأن يملأها بإشارات فلسفية ومصطلحية مما يتردد في كتابات الوجوديين، “وقل للجماعة بعد ذاك إنك ترجمتها عن سارتر نفسه عن طريق الانجليزية”. وبالفعل جلس الاثنان، حيث كتب جبرا القصيدة المزعومة وشحنها بغرائب القول مستعيناً بأسماء وهمية يبتكرها دنيس. وفي الليل جاءت »الشلة« الوجودية لتقضية السهرة مع جبرا وصاحبه الانجليزي، فأمسك جبرا بالحديث قائلا إنه قرأ في العدد الأخير من دورية ثقافية بريطانية قصيدة جديدة لسارتر وإنه قام بترجمتها إلى العربية سائلاً ما إذا كان الحاضرون يرغبون في سماعها، فوافق الجميع على الفور، وحين فرغ من القراءة عبر الكثير من الحاضرين عن ذهولهم بما سمعوا، ما عدا بلند الحيدري الذي كان حذراً في ردة فعله. على الغالبية الساحقة من المتلقين يمكن أن تنطلي ألاعيب مشابهة كثيرة. فبإمكان رسم لتمديدات صحية لمرحاض خاص بالرجال أن يصبح لوحة تجريدية عظيمة تعلق في واحد من أكبر متاحف الفنون في فرنسا، هو متحف الفن الأوروبي في باريس، وسيأتي السادة النقاد العظام، الكبار فيكتبون عنه بوصفه لوحة متجاوزة للحداثة، أو مغرقة في الحداثة، وتعكس حالة الرفض والغضب التي يستقبل بها الإنسان القرن الحادي والعشرين، وإنها حالة تخطي لما بعد الفن، وتعبير عن الاحتجاج، وتتفوق على لوحات سلفادور دالي وبيكاسو. وكتب ناقد آخر: “هذا هو الفن في شكله الخام البريء، فالفنان الذي يحس بالغربة يجهد عبثاً كي يعطي معنى إنسانياً للعالم الحديث الذي ضاعت فيه القيم، وخضع المجتمع فيه لابتزاز الكمبيوتر”. هذه ليس حكاية مفبركة. إنها واقعة حدثت فعلاً ونشرت تفاصيلها منذ سنوات، ولم تكتشف الخديعة إلا بعد أن أرسل السباك الذي وضع تخطيط المرحاض الرجالي رسالة إلى مدير المتحف قال فيها إن ما تعلقونه في قاعة الفن الانطباعي ليس لوحة ولا علاقة له بالغربة ولا بالغضب ولا بالحداثة أو بما بعدها. إنه مجرد رسم تخطيطي لشبكة التمديدات الصحية لمرحاض رجالي، وقد لونت الرسم بألوان مختلفة لتوضيح الرسم!
 
صحيفة الايام
29 اكتوبر 2009