المنشور

الأزمة تتحول إلى تصدعات جيوسياسية في‮ ‬العالم العربي

‘‬يجتاز العالم العربي‮ ‬مرحلة دقيقة من تاريخه تتطلب وقفة عربية جادة في‮ ‬حجم التحدي‮ ‬الذي‮ ‬تشكله‮’. ‬هذه عبارة تكاد تكون نمطية نجدها تتكرر مرة بعد أخرى في‮ ‬بيانات القمم العربية وفي‮ ‬تقارير المؤتمرات الحزبية ومؤتمرات وفعاليات منظمات المجتمع المدني‮ ‬العربية‮. ‬ولكأن هذه المرحلة ممتدة إلى ما لا نهاية لها،‮ ‬نظراً‮ ‬لغياب الإرادة والفعل الجاد والمخلص الموجه لانتشال العالم العربي‮ ‬من أزمات ومشاكل‮ ‘‬هذه المرحلة الدقيقة‮’.‬ ولأن مثل هذه الإرادة وهذا الفعل الجاد والمخلص لم‮ ‬يظهرا مطلقاً‮ ‬لمقابلة تحديات‮ ‘‬المرحلة الدقيقة‮’ ‬إيَّاها واستحقاقاتها،‮ ‬فإن الوضع قد انتقل إلى حالة أسوأ مما كان عليه قبلاً‮.‬ فالتحدي‮ ‬راح اليوم‮ ‬ينهش بتجاسر في‮ ‬الأوضاع الجيوسياسية للبلدان العربية ويهدد كياناتها،‮ ‬وذلك على النحو التالي‮:‬ ‮(‬1‮) ‬لبنان‮: ‬البلد منقسم على نفسه لدرجة أنه فشل في‮ ‬تشكيل حكومة على مدى الشهور المنقضية منذ أبريل الماضي‮ ‬حين أُجريت الانتخابات وفاز فيها ما‮ ‬يسمى تحالف قوى الموالاة بغالبية مريحة في‮ ‬البرلمان تصل إلى‮ ‬14‮ ‬مقعداً‮. ‬ومع أن البُعد الإقليمي‮ ‬يلقي‮ ‬بظلاله الداكنة على الوضع السياسي‮ ‬الداخلي‮ ‬لهذا البلد،‮ ‬إلا أن التشطير والانقسام المجتمعي‮ ‬الذي‮ ‬لا تخطئه العين المجردة،‮ ‬يضطلع بدور رئيسي‮ ‬في‮ ‬حالة التخندق والتموضع الطائفية البالغة الحدة‮.‬ ‮(‬2‮) ‬السودان‮: ‬منذ أزيد من عقدين وهذا البلد العربي‮ ‬الأفريقي‮ ‬يغلي‮ ‬ويتقلب على نيران الصراعات والانقسامات الإثنية والقبلية والجهوية أوصلته إلى حالة الانقسام الفعلية بين شمال حاكم وجنوب وغرب متمردين‮. ‬إلا أن الأصرح هو حدوث انقسام بل شبه انفصال للجنوب عن بقية السودان‮. ‬وقد لا‮ ‬يحتاج الأمر لوقت أطول لتكريس هذا الواقع وإضفاء الشرعية الدستورية والقانونية عليه،‮ ‬حيث أن الأمور تسير فعلاً‮ ‬في‮ ‬هذا الاتجاه‮.‬ ‮(‬3‮) ‬العراق‮: ‬هو أيضاً‮ ‬يجتاز وضعاً‮ ‬شبيهاً‮ ‬بالوضع الذي‮ ‬يجتازه السودان،‮ ‬إنما الشمال في‮ ‬حالة العراق هو الذي‮ ‬نجح في‮ ‬تكريس انفصاله عن الوطن الأم،‮ ‬فيما النزعات الانفصالية الجنوبية لازالت تسيطر على أجندات بعض الكيانات السياسية‮.. ‬في‮ ‬الحالة الأولى بمحرك قومي‮ ‬عالي‮ ‬التوتر وفي‮ ‬الحالة الثانية بمحرك طائفي‮ ‬طائش لا‮ ‬يخلو من مطامح ومطامع ذاتية قصيرة النظر للأطراف الشعبوية التي‮ ‬تقف خلفه‮.‬ ‮(‬4‮) ‬الصومال‮: ‬هذا البلد العربي‮ ‬الأفريقي‮ ‬العضو في‮ ‬الجامعة العربية انفرط عقده منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي‮ ‬وأصبح مقسماً‮ ‬بحكم الأمر الواقع إلى مناطق‮ ‘‬مستقلة‮’ ‬خاضعة لسيطرة قبائل بعينها وأمراء حرب امتهنوا كافة أشكال الجريمة المنظمة التي‮ ‬أحالت الصومال إلى كانتونات متقطعة الأوصال لم تُبقِ‮ ‬على الدولة سوى اسمها وتمثيلها الخارجي‮ ‬المجروح والمطعون هو ذاته في‮ ‬شرعيته‮. ‬فهناك ما تسمى بجمهورية أرض الصومال‮ ‬غير المعترف بها دولياً،‮ ‬وهناك المدن والموانئ التي‮ ‬حولتها القبائل وعصابات الحرب إلى‮ ‘‬دويلات‮’ ‬صغيرة تتبادل السيطرة والنفوذ فيها وفقاً‮ ‬لما تسفر عنه جولات القتال المتنقلة‮. ‬حتى مقديشو العاصمة التي‮ ‬تعتبر الملاذ المتبقي‮ ‬لشرعية الدولة الصومالية وحكومتها الرخوة،‮ ‬لا تنعم بالاستقرار ولا مقومات بسط السيادة على الأرض المتعارف عليها في‮ ‬علم العلاقات الدولية‮.‬ ‮(‬5‮) ‬جزر القمر‮: ‬هذه أيضاً‮ ‬دولة عضو في‮ ‬الجامعة العربية لا تتجاوز ميزانيتها السنوية الستين مليون‮ ‬يورو‮ ‬ينفق‮ ‬80٪‮ ‬منها على رواتب موظفي‮ ‘‬الدولة‮’ ‬بصورة‮ ‬غير منتظمة ولا‮ ‬يخصص منها أي‮ ‬مبلغ‮ ‬لبناء مدرسة أو مستشفى‮. ‬ولا أحد‮ ‬يسأل عنها أو‮ ‬يسمع عنها إلا حين‮ ‬يشرِّف رئيسها أحد اجتماعات القمة العربية‮. ‬المفارقة أن الصين هي‮ ‬التي‮ ‬بادرت لبناء مبنى البرلمان القمري‮ ‬ومقر التلفزيون ومبنى الإذاعة الحكوميين،‮ ‬كما إنها بنت المقر الرئاسي،‮ ‬إضافة إلى تقديمها مساعدات عسكرية للجيش القمري‮. ‬علماً‮ ‬بأن الصين بادرت لإقامة علاقات دبلوماسية مع جزر القمر في‮ ‬عام‮ ‬1976‮ ‬أي‮ ‬بعد أقل من عام واحد على استقلال جزر القمر‮.‬ صحيح أن جزر القمر شبه مستقرة اليوم ولكنها لا تزال مجزأة،‮ ‬إذ إنه ورغم وجود سلطة مركزية بيد الرئيس أحمد عبدالله سامبي‮ ‬إلا أن السلطة موزعة على الجزر الأخرى،‮ ‬والرئاسة تتم بالتناوب بين رؤساء الجزر الأربعة‮. ‬وهناك جزيرة مايوتي‮ ‬التي‮ ‬تقدم لها فرنسا معونة مالية سنوية تبلغ‮ ‬350‮ ‬مليون‮ ‬يورو والتي‮ ‬يرجح أن تلحق نهائياً‮ ‬بفرنسا‮.‬ ‮(‬6‮) ‬اليمن‮: ‬تواجه الدولة اليمنية اليوم تحديات انفصالية بالغة الجدية‮.. ‬فهناك الجنوبيون الذين كانوا‮ ‬ينتمون إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قبل أن‮ ‬يقرر قادتهم إبرام اتفاق مع الشمال‮ (‬الجمهورية العربية اليمنية‮) ‬لتوحيد الدولتين أواخر ثمانينيات القرن الماضي،‮ ‬ليقرروا بعدها بعامين الرجوع عن ذلكم الاتفاق ما أدى لإشعال حرب بين الشمال والجنوب في‮ ‬عام‮ ‬1994‮ ‬انتهت بإخضاع الجنوب للدولة اليمنية الموحدة‮.. ‬ولكن بعد أن فقدت عنصر التراضي‮ ‬والطوعية لصالح الجبرية والقسرية‮. ‬ومنذ ذلك الحين والجنوب اليمني‮ ‬يغلي‮ ‬على نار هادئة تغذيها نزعة الانفصال عن الشمال،‮ ‬وهي‮ ‬النزعة التي‮ ‬تفجرت على النحو الذي‮ ‬تشهده اليوم كافة محافظات الجنوب اليمني‮. ‬وفي‮ ‬شمال اليمن برزت فجأة بؤرة أخرى للصراع والتمرد على الحكم المركزي‮ ‬في‮ ‬صنعاء تتصدرها حركة انفصالية ذات مرجعيات دينية وخلفيات قبلية ومذهبية،‮ ‬هي‮ ‬حركة من‮ ‬يُسَمَوْن بالحوثيين الذين نجحوا في‮ ‬بسط نفوذهم في‮ ‬محافظة صعدة وجوارها‮.‬ ‮(‬7‮) ‬فلسطين‮: ‬حتى فلسطين،‮ ‬ومن قبل قيام دولتها الموعودة على أراضي‮ ‬الضفة الغربية وقطاع‮ ‬غزة لم تسلم هي‮ ‬الأخرى من عدوى النزعات الانفصالية‮. ‬فلقد نجحت حركة حماس في‮ ‬خططها المبيَّتة لانتزاع قطاع‮ ‬غزة من‮ ‬يد حركة فتح والاستحواذ عليه في‮ ‬معركة عسكرية أريق فيها الكثير من الدماء من الجانبين وذلك في‮ ‬إسقاط مخزٍ‮ ‬لشعار‮ ‘‬الدم الفلسطيني‮ ‬خط أحمر‮’ ‬الذي‮ ‬طالما تغنى به الطرفان ما نتج عنه انشطار الأرض الفلسطينية المفترض إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها إلى قسمين الضفة الغربية وتسيطر عليها فتح وقطاع‮ ‬غزة وتسيطر عليه حماس‮.‬ وعلى ذلك فإن سبع دول عربية من إجمالي‮ ‬الدول العربية الاثنتين والعشرين،‮ ‬أي‮ ‬ما نسبته‮ ‬8‭,‬31٪،‮ ‬قد تخطت حالة اللااستقرار إلى الوقوع على شفا هاوية الانهيار والتجزئة والتقسيم الفعلي‮.‬ لاحظ أن هذا‮ ‬يحدث في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬كان‮ ‬يُفترض،‮ ‬في‮ ‬ظل الميزات التنافسية النوعية التي‮ ‬يتوفر عليها العالم العربي‮: ‬ثروة هايدروكربونية تضعه على رأس قائمة الدول الأكـثر حظوة باحتياطياتها وإنتاجها،‮ ‬وسوق واسعة تضم أكثر من‮ ‬300‮ ‬مليون نسمة‮ – ‬أن‮ ‬يكون اليوم في‮ ‬عداد الدول الصاعدة‮ ‬‭(‬Emerging countries‭)‬‮ ‬مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا والهند وجنوب أفريقيا كي‮ ‬لا نقول الصين والبرازيل والمكسيك‮. ‬فبعض هذه الدول لا‮ ‬يتوفر على عُشر ما هو متوفر لدينا من مقومات النهوض والصعود الاقتصادي‮ ‬ومع ذلك فإنها تخطتنا في‮ ‬مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بخمسة عقود تنموية على أقل تقدير،‮ ‬بينما ارتدَّت التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدينا إلى الوراء إلى المستوى الذي‮ ‬وصل فيه الارتداد إلى مرحلة التقويض الجيوسياسي‮ ‬في‮ ‬عدد ليس بالقليل من بلدان المنظومة العربية‮.‬ الغريب أنه حتى هذا التدهور النوعي‮ ‬بالغ‮ ‬الخطورة في‮ ‬الحالة العربية العامة لم‮ ‬يستدع ردات فعل مكافئة وموازية له في‮ ‬حجم التحدي‮ ‬الذي‮ ‬يمثله بالنسبة لمستقبل موقف وموقع أعضاء المنظومة العربية في‮ ‬النظامين الإقليمي‮ ‬والدولي‮!‬ فلا أحد‮ ‬يتقدم لدفع السلبية الحادثة والقاتلة‮!‬
 
صحيفة الوطن
31 اكتوبر 2009