المنشور

تحديات العلمانية البحرينية (1)

حين يرحل المناضل العجوز ربما نؤجل البحث في تاريخه كله الآن، ونتذكر لحظة مفصلية مشتعلة من تاريخه، هي قراءته لهيمنة القوى الدينية المستغلة للإسلام لمسرح الحياة السياسية.
هذه القراءة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية لترى الانهيار من جهتين: من جهة عدم فهم النظرية الاشتراكية ومن جهة عدم فهم الإسلام. لأن تلك اللحظة عكست خموداً من جهة وطغياناً من جهة أخرى. هيمنة القوى الدينية على مسرح اليسار (واليمين الليبرالي كذلك) قد جرت وهو في حالة أنقاض وضربات من كل الجهات.
ثلة قليلة وقفت ضد هذا في مسرح المحرق السياسي حيث الغرف الصغيرة للحوارات الساخنة، وفي حالة عدم القدرة على إنشاء روابط واسعة في حياة الناس نتيجة لتاريخ دام طويل.
لن يذكر تاريخ الأشباح هؤلاء القلة، والعجوز الكهل كان من ضمن هؤلاء، الذين قبضوا على جمرة الشعب المتوهجة في أيديهم.
تصدوا بأفكارهم لدخول القوى المذهبية السياسية مسرح اليسار واحتلاله، كان لديهم تاريخ طويل من التضحيات، عملوا لتشكيل شعب موحد، وزرع أفكار ديمقراطية وطنية تميل إلى العاملين وإلى كل قوى النهضة، رفضوا تسييس السنة والشيعة وإعادة البحرينيين إلى ما قبل تاريخ الهيئة ونسيان تضحيات عبدالرحمن الباكر وعبدالعزيز الشملان ورفاقِهم الكثيرين، أي العودة إلى الوراء، وتحويل الشعب الصغير إلى معسكرين، كان كارثةً بكل المقاييس، مهما ارتدت العملية من شعارات براقة.
ليس هذا دفاعاً عن الحكومة بل نقداً لعملها في سد الأبواب أمام القوى الديمقراطية في العقود الماضية.
الإشكالية بطبيعة الحال أكبر من كل الشعوب العربية الإسلامية المفتتة، غير القادرة على التوحد النهضوي مجدداً، بعد اللمحات الوطنية النهضوية الليبرالية التي جرت في سماواتها المتفرقة، المتباعدة، التي انفجرت مثل الشهب في تلك السماوات، الوفد في مصر، والتوحد الوطني في العراق، والهيئة في البحرين وغيرها في كل بلد عربي.
التماعات سريعة لأن الأصوات الديمقراطية شاحبة وضعيفة في المجتمعات العربية التي تكدست الأبنيةُ الإقطاعية فوق صدورها ألف سنة، وجاء الاستعمار ففتح بعض القنوات الصغيرة لمرور الضوء وترك جبالاً جاثمة.
كانت شبكات الغوص في المحرق لم تستطعْ سوى أن تحول القبائل إلى (فرجان)، وهي كلمة عامية تعني الفريق، فكانت القبائل فرقاً عسكرية، تجثم على مكان ويكون لها، ورغم تحول عامتها إلى عاملين، فإن الجذور العسكريةَ والانتماء القبلي التحالفي ظلت مستمرة فيهم، ومع كل تبدلات في الإنتاج تكون لها تغييرات لا تصل إلى زوال تلك الأسس القبلية المذهبية التحالفية.
وقد ظهر سوق فيها، عبر نمو تراكمات الفيضِ الاقتصادي لزمن الغوص، في البحر والدكاكين، وظل هامشياً على ضفاف المدينة خاصة، وكعروق صغيرةٍ في أنحاء جسمها المتماسك، كأنه القبائل العسكرية المتخوفة من الخارج، والمترابطة من الداخل، ولهذا ستكون محكومة بهذا الهاجس العسكري (السني)، الذي يستقبل أعضاء المذاهب الأخرى كعاملين لديه، ليس لهم استقلال سياسي، وهو بهذا متخوف من المذاهب الأخرى ويخاف من اختراقه، ولهذا يتراص داخلياً ويتعصب، وتكون للمدينة بهذا نشأة جغرافية مأزومة بين البحر والبرية، في تضاد مع القرية ذات الهوية المذهبية المغايرة، والمدينةُ تضع أوزار الغوص تدريجياً وتلبس أشكال الحداثة، كالقرية لكن الأخيرة تقوم بذلك على زمنية أطول، ويتنامى السكان المدنيون في أزمة معيشية، فالغوص توفي، والنفط ليس سوى أجور زهيدة تُدفع لعاملين محظوظين تمكنوا من الالتحاق بالجبل، وهو التسمية الرمزية لشركة النفط.
لم تستطع التجارة التي اتخذت صفة الدكاكين التي رضعت من أثداء الغوص ببيع حباله وخشبه ومواده المختلفة، وامتدت إلى البضائع الجديدة الأخرى الاستهلاكية غير الثمينة غالباً، أن تخلق (طبقة) تجارية في المدينة، بل بضع عائلات تجارية امتدت قليلاً في شراء الأراضي، والعمارات.
ولهذا فإن مستقبل الطبقة التجارية سيكون في المنامة التي كانت لها مساحات فراغ أكبر، وقدرة على المناورة المكانية أوسع من المحرق، وتوسعاً في الوكالات، وكذلك عرفت جدلاً اجتماعياً أكبر من المحرق، فتداخلتْ في أحيائها الطوائف والمهاجرون وانتشرت فيها التجارة على نحو كبير، والسمة العروبية السنية الكبيرة في المحرق تجاوزتها المنامة بتعدديتها الإسلامية والقومية!
تشكلت الوحدة الوطنيةُ الأبرز، العمود الفقري للبحرنة، من هاتين المدينتين، بتمايزهما وبتداخلهما، وصراعهما زمناً ثم وحدتهما النضالية، التي ارتفعت عن المذهبية وبدأت تصوغ الوطنية البحرينية!

صحيفة اخبار الخليج
31 اكتوبر 2009