المنشور

ليس عن «الغسيل» بل حوله


حتى لا يقال إنني اخترقت المحظور، أو قفزت على قرار النيابة العامة بحظر النشر عن قضية وزير الدولة السابق منصور بن رجب، والذي أكرر بضرورة كفالة جميع حقوقه، وعدم الانسياق وراء القيل والقال، وتناقل الأقوال، وكثرة الإجابات حيث لا سؤال، والتبرع بالتحليلات التي تفوق الخيال؛ فإن هناك حقاً ملتبساً آخر لا أظن أنه يخفى، ولكنه يتراجع في ظل عدم مطالبة أهله به المطالبة الحقيقية والصارمة ذات النفس الطويل، وهو: حق المعرفة .

من يقود حق الناس في المعرفة هو الإعلام. والقضايا العامة التي تدخل ضمن تفاصيلها، أو يكون ‘’أبطالها’’ شخصيات عامة، هي من حقوق الجماهير التي تتطلع لأن تعرف ما الذي يجري فيها. فالحديث هنا لا يدور عن أحد الناس الاعتياديين متورط في قضية مالية، أو في ضرب خادمة، أو في سرقة منزل، أو التعدي على جاره؛ ولكنها تتعلق بشخص مثّل الدولة، وكان ركناً من أركانها، وتسلم المناصب، وكانت له مساهماته، وإن اختلف المختلفون في تقييم هذه المساهمات .

إنها ليست المرّة الأولى التي تفسح النيابة العامة للنشر في قضية ما، ثم تمسك عن النشر في تفاصيلها. ليست المرة الأولى – أيضاً – التي تحظر النيابة العامة النشر في قضية حتى لا يؤثر ذلك على سير القضية، ولا تأمر – في المقابل – برفع الحظر عندما تنتهي القضية ويجري الحكم فيها، فيستمر الحظر إلى أبد الآبدين، فتزداد منافذنا المقفلة، وتزداد المحظورات .

ومنذ أن تسفلتت شوارع البحرين أو تزفتت (لا أدري أيهما أصح)، والبحرينيون صاروا خبراء في اللف والدوران حول هذه الشوارع بفضل الحفر والحفريات والإصلاحات المتكررة للشوارع، والمشروعات المتلكئة، ومدّ أنابيب شبكة المجاري. ولأننا كائنات وديعة، فإننا ألفنا التكيّف مع الواقع، نتذمر بعض الشيء ونواصل طريقنا. أي أن لا حيلة لنا سوى الرضوخ للواقع، بعد التشرب بمرارته، ونزداد قدرة على شرب المزيد من المُرِّ كلما تشبعنا من الدرجة الأقل منه، ولسنا وحدنا في هذا الأمر، حتى لا أضفي صفات أسطورية على هذا الشعب. المراد قوله من هذه الفقرة، إن الشارع إن لم يكن سالكاً، اتخذنا طرقاً جانبية، وصعدنا بعض الأرصفة، ودخلنا ‘’الدواعيس’’ و’’الزرانيق’’ لكي نصل إلى مرادنا. وهذا ما يحدث في القضايا التي تحظر النشر فيها النيابة العامة، ولا يكون لهذا النشر مدى زمني .

هل تذكرون قضة ‘’الخلية’’ في العام ,2003 عندما حظرت النيابة النشر عنها، فتم التحايل على الأمر باللف والدوران والتلميح. لا أعتقد أنكم نسيتم قصة ‘’البندر’’ فهي أقرب، حدثت في ,2006 ولاتزال الصحف غير واثقة بالنشر فيها أم لا. أذكر أننا في الوقت أعددنا أربع حلقات نشرناها تباعاً مستقصين القصّة من أكثر من طرف، وعندما حان نشر الحلقة الأخيرة صدر أمر النيابة العامة بالحظر، فبقيت الحلقة معلقة منذ أربع سنوات تقريباً، ولا أحد يدري هل فك الحظر أم لا. واستعاضت الصحف عن التسمية المحظورة بتسمية أخرى ‘’التقرير المثير للجدل ’’.

اليوم أيضاً تعاود النيابة حرمان الجمهور من حق الاطلاع والمعرفة، وأمرت يوم الخميس بمنع النشر في ما يتعلق بالوزير السابق، ولكن الصحف بدأت منذ تلك اللحظة تقليب التسميات التي يمكنها أن تحلها محل ‘’قضية بن رجب’’ بالقول مثلاً ‘’قضية غسيل الأموال’’. وكما هو الحال في ‘’التقرير المثير للجدل’’، هل الاسم هو ما يثير الحساسية أم المعلومات الواردة في صلب الخبر؟ أي: هل تغيير اسم الملف سيكون كافياً ومسوِّغاً للنشر؟
والغريب في القضايا الثلاث محل المثل الذي ضربناه هو أن الأجهزة الرسمية تعمل على ‘’تعليقنا’’ بشكل يغيظ حقاً .

و’’التعليق’’ تعبير ليس بالغريب عنا، إذ عندما لا يصل المرء إلى حد الاكتفاء من أمر ما (حلالاً كان أم حراماً) فإنه ‘’يتعلق’’، فلا هو الذي ظل محروماً منه ولم يذق طعمه، ولا هو الذي اكتفى وأتخم وثمل من جرائه. الظمأ إلى المعلومة والحقيقة لا يقل شهوة ورغبة لدى الناس، وإلا لما انتعشت صناعة الإعلام والأخبار .
فالأجهزة الرسمية دأبت على أن تعطي الخيوط الأولى للخبر في القضايا الثلاث، وتمد الخيط لنا، نلتقفه ونعمل على نسجه وإعادة خلق القصة من جديد، ومحاولة العبور بها إلى طرائق أخرى، وبطرقنا الخاصة، وأدواتنا القاصرة المحرومة من الحصول على المعلومات من مضانها. وهي (الأجهزة الرسمية) من يعمل على ‘’نشر غسيل’’ المتهمين عندما تقرر ذلك . ولكنها تعود في لحظة ما لتلمّ الغسيل والناس في ربع الطريق أو أقل من ذلك قليلاً، نهمهم للمعرفة والاطلاع لم يُشبع، وحقهم في المعرفة لم يُستوفَ. ولكن من ذا الذي يريد أن يعرِّض نفسه للقانون ويطالب بحق الجمهور؟ !

لا شك أن للنيابة العامة أسبابها. ولا شك أنها استندت إلى بعض اللوائح والفقرات والمواد والقوانين التي تعطيها هذا الحق في المنع والحظر، ولكن لنتساءل: من ذا الذي يكفل حق الجمهور في المعرفة والاطلاع؟
 
الوقت 27 مارس 2010