المنشور

التقدم صناعة الحاضر

تتحكمُ الغيبياتُ في وعي الساسة المعاصرين خاصة في الأقسام الشرقية بشكلٍ هائل، الماضي الديني والاشتراكية القادمة هما غيبياتٌ لا تحققُ شيئاً تحويلياً للإمام، وما لدينا هو الحاضر الذي لا تستطيع أن تقبضَ عليه إلا بالفعل فيه وهو يهربُ يوماً بعد يوم مهيمناً عليه من قبل الأقوياء والمُلاك العظام.
نعم هناك التراث لكنه يتبخر في كلِ لحظة، لا تتصور أن أبنيتَهُ ستظلُ راسخةً أبديةً، الحاضرُ يأكلُ كل شيء ويشكل حيتانَهُ الخاصة، إن ثقافةَ المتقدمين المنتصرين في حروبِ العصر تكتسحُ كل شيء.
ستصرخُ، وتعوي، وتجري نحو الماضي بكلِ الأسلحةِ لكن الحاضرَ يتقدم.
إن القوى المالكةَ للثرواتِ الأسطوريةِ والأجهزة تفرضُ خرائطَها.
والسياسةُ هي قراءةٌ موضوعيةٌ للحاضر، وسؤالها الموجز الفيصل: ماذا تريد أن تحقق للأغلبية الشعبية؟ لابد أن يتعاون ممثلو هذه الأغلبية في كل بلد وعلى مستوى الأمة، أن يعرفوا ما هي صناعة الأسعار والمواد وبناء الشركات والقيم وثروات الأرض والأجهزة وكيف تأكلُ الثروات في أشداقِها الواسعةِ، وكيف تتسمرُ الأغلبيةُ العاملة منهكةً مستنزفةً، وأن يضعَ ممثلو الواقع حلولاً نضالية لمواجهة ذلك.
لا بد أن يتركوا كيفيةَ مجيء يوم القيامة وعلامات المهدي ومن سيدخل الجنة ومن سيدخل النار وكيفية تحقق الشيوعية الماحقة للفقر والغنى ومحققة السعادة الأبدية لرجالِ الدين والغيب، لمصانع الأساطير الكبرى، للذين يشتغلون في السياسات الماورائية، ولصناع الأحلام أو الكوابيس، ولقوى الدكتاتوريةِ الغيبيةِ المتغلغلة السارقةِ لأحلام الجماهير، أو للدارسين الموضوعيين الذين يفرزون النضال عن الأوهام.
إن من مهمات السياسيين مراقبة الأسواق وكيفية حراك البنوك وأين ترحلُ أرباحَها؟ وما هو المجموع الحسابي لفائضِ القيمة وكيف يُوزع؟ وكيف تتشكل الطبقاتُ والفئاتُ الاجتماعيةُ منه؟ وكيف نعملُ على تدفقِ الأرباح لدى الشركات وكذلك نمو مداخيل العمال؟ هذه مسألة مركزية، شائكة، كيف نوفق بين التقدم الاقتصادي والنمو الاجتماعي لمجمل الطبقات؟ كيف نوقف مشاريع الدول على هذه الأرصفة والشوارع والبلاطات والأنفاق التي لا تتوقف وبعد كل مطر تظهر مشاريع أخرى بعد ثُبت أخطاء الهندسة وقد بلعت المجاري عواصف المطر وحولتها إلى فيضانات أطاحت بالأرصفة والشوارع.
لابد أن ينزل المتصوفون إلى معرفة أين توجد المشكلات السياسية الاجتماعية المعرقلة لتطوير كل بنية اجتماعية؟
كيف يصنعُ كلُ تنظيمٍ سياسي رؤيته حول ذلك؟ كيف يتكون اليمين واليسار عبر هذه الخرائط؟ وماذا يقدم كل منهما من برامج مفيدة لقواه الاجتماعية المطحونة أو الشبعانة؟
كيف تترك البلدان الإسلامية صراعاتها الغبية الراهنة؟ وكيف تتعاون على تنمية الأسماك وعدم قتل الصيادين، والبدء ببناء مصانع مشتركة بل حتى ورش وحرف، وليس إرسال المهربين والقتلة بينها؟
السياسي ينسى التراثَ والغيب، ويقبضُ على الواقع الهارب، نعم السياسي ينشىء المدارس ويفتتح كل فترة مشروعاً، ملموساً، مؤثراً في زيادة دخل المواطنين وليس دخول المؤسسات الحكومية والخاصة فقط، السياسي هذا الذي يلحظه الجمهور نازلاً في مشكلاتهم، عارفاً دقائق الواقع، مكتشفاً حلولاً، السياسي هو الذي يطور الواقع.
السياسي هذا الذي لا يعرف العداءات الأبدية القومية والدينية والمذهبية والطبقية، صانع الممكن المغير، الذي يذهب للعدو وينتزع أرضاً ويبني مصنعاً، وليس المتخصص في تهريب الأسلحة وإطلاق الصواريخ التي تقتلُ الشجرَ والحمام، وتوسعُ جيشَ العدو.
لقد قام الطائفيون بحرق المنطقة معتبرينها سياسات فذة، وكل يوم يجري إشعال بقعة من الأرض، من أجل الإعداد الواسع للمحرقة الكبرى.
السياسة الآن هي توحيد الناس، توحيد المواطنين، توحيد المسلمين، توحيد أهل المنطقة ضد الفقر والتخلف وانعدام فرص التنمية وازدهار مشروعات الحروب.
السياسة هي علوم وليست خرافات.
كل لحظة يظهر قائد ما يعلم عن الدين وآياته ودقائق معجزاته وسياساته الخارقة في الماضي، وكيف فعل فلان وكيف انتصر فلان، وهي كلها أشياء صارت محفوظات، وتقال بلغات ميتة مُفتتة، للصفوف، لأنها غير عملية، لا تعطي طفلاً مهداً لينام عليه، ولا تفهم لغات الاقتصاد ولم تدرسْ علومَ الاجتماع ولم تحولَ كلماتها إلى لغة فعل يومية خلاقة، إلى إنتاج، لأنها لغات استهلاك، لغات سرقات بصورٍ جديدة.
بعض السياسيين بدأ يستوعب هذه اللغة السياسية العالمية، لم يعد يهتم كثيراً بقوافلِ الشهداء وأمجاد حزبه، والمعارك الايديولوجية، لكن المشكلة تكمن في الجمهور الواسع العاطفي، الذي لم يستوعب بعد ان السياسة زمن يأكل عمرك، فلا تعتقد ان السنوات التي خسرتها سوف تعود، والزمنُ ثمينٌ لأهلك وبلدتك، ومن هنا ضرورة محاسبة السياسيين برؤية الخطط المحددة التي يعتزمون تطبيقها والحلول التي سوف ينفذونها، والإنجازات التي سوف يحققونها. وكلُ فشلٍ لهم ضياعُ سنواتٍ من حياتك.
السياسي ليس ديناصوراً يظل مئات السنين، وموقعه القيادي مرهون بالتنفيذ والتحديد، وبالخططِ وليس مثل الخطط العربية التي تستمر عقوداً وهي لا تعرف خطط الأيام، والناخبون من الضروري أن يحاكموا نوابهم وقيادييهم محاكمات عسيرة، عن السابق واللاحق، وتتشكل قواعد مسئولة تدققُ في أعمالِهم وفي برامجِ الأحزاب ومدى جدية تحقيقها وتشطب على الإنشائيات الهائلة فيها.
نسألُ: ماذا فعلتم؟ هل رفعتم أجورنَا؟ هل قصصتم مخالبَ الإسكان؟ هل كشفتم ألاعيبَ الكهرباء؟ هل علمنتم تعليمَ أولادنا وبناتنا وجعلتموه وطنياً؟
نريدُ أن نعيش لا أن نذهبَ إلى غرفِ الإنعاش.

صحيفة اخبار الخليج
30 يونيو 2010