المنشور

الرأسمالية تتعرى في مياه خليج المكسيك

حتى الآن ورغم العاصفة السياسية التي ما فتئت تجتاح الولايات المتحدة من جراء تلوث خليج المكسيك ببقعة الزيت المتسربة من بئر “بريتش بتروليوم” النفطي في قاع البحر، وهي العاصفة التي مازالت تتصاعد وتتسع اتساع بقعة الزيت وتفاقمها، فان دولنا الخليجية لا يبدو انها بعد في وارد الاستفادة البتة من دروس هذه الكارثة على الاصعدة السياسية والصناعية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية، فهي تتصرف تماما كالمتفرج كأنها – الكارثة – لا تعنيها من قريب أو من بعيد أو كأنها بمنجاة الى الابد من تعرضها لمثيل لها، في حين توفر دروس هذه الكارثة فرصة ذهبية لدولنا الخليجية لدراستها والاستفادة منها في تفادي وقوع كوارث مماثلة لا سمح الله في مياه خليجنا العربي عبر تشديد اجراءات الوقاية والسلامة المهنيتين في كل ابار هذه الدول النفطية البحرية.
فكأنما نحن أكثر تفوقا في اجراءات ونظم وقوانين السلامة المهنية في المنشآت الصناعية النفطية في البحر من أكبر دولة صناعية في العالم، وكأننا أكثر تفوقا من الولايات المتحدة في نظمنا الدستورية الديمقراطية والرقابية والقضائية من الولايات المتحدة لمحاسبة ومقاضاة الشركات النفطية الكبرى، واجبارها على دفع كامل التعويضات المستحقة عن أي تلوث نفطي تتسبب فيه اقتصاديا وبيئيا وعماليا، وآبارنا النفطية جميعها آمنة 100% ليست بحاجة الى فحص أو تفتيش ولن تتسبب بأي حال من الاحوال في أي نوع من التسرب أو التلوث في مياه خليجنا العذراء المقدسة.
ومما زاد حدة نقمة الناس وسخطهم على الشركة الملوثة لخليجهم حينما علموا بأنها وزعت مؤخرا على مساهميها أرباحاً تزيد على عشرة مليارات دولار في الوقت الذي تتصاعد فيه كارثة التلوث ولم تدفع حتى الآن سوى 69 مليون دولار فقط طبقا لمبدأ “من يلوث يدفع”، الامر الذي دفع الرئيس أوباما إلى التعبير باسم بسطاء الناس المتضررين عن سخطهم على لا مبالاة الشركة تجاه الكارثة المأساوية التي تأخذ بخناقهم وذلك اثناء زيارته الثالثة للويزيانا المنكوبة، اكثر من ذلك فان أوباما عاب على “بريتش بتروليوم” عدم تورعها عن شراء 50 مليون دولار مساحات اعلانية في مجموعة من القنوات الفضائية لستر فضيحتها وعورتها البيئيتين في مياه خليج المكسيك أو مكيجة وجهها المتلوث بالذهب الاسود فيه.
الآن الرأسمالية البريطانية ممثلة في “بريتش بتروليوم” تتصارع فوق المياه الملوثة في خليج المكسيك مع الرأسمالية الامريكية ونظامها السياسي حول من المتسبب الرئيسي في الكارثة ومن هو يتحمل المسئولية الاولى عما حدث في الخليج، فبعد الضغوط المتزايدة على “بريتش بتروليوم” البريطانية من قبل النظام السياسي الامريكي الرأسمالي والممثل في الوقت ذاته لمصالح الشركات النفطية الامريكية الكبرى التي لكل منها نصيب من التلوث النفطي سواء على الصعيد المحلي ام على الصعيد الدولي. فالشركة البريطانية باعتبارها المتسبب الرئيسي في كارثة التلوث وازاء الضغوط الشعبية والرسمية التي تتعرض لها في الولايات المتحدة اعلنت انها ستلاحق شريكتها في استثمار الحقل الكارثة مجموعة “اناداكو” الامريكية في حين توجه هذه الاخيرة اتهاما للأولى بأنها لم تعبأ بتحذيراتها.
وإذ يجري هذا الصراع بين الرأسماليتين البريطانية والامريكية حول من يدفع تعويضات المنكوبين بالكارثة وتنظيف الخليج فان سكان المناطق الساحلية المتضررة من صيادين وشركات صغيرة للصيد ومؤسسات سياحية لم يقبضوا حتى الآن سوى الريح.
هذا في الوقت الذي لم يتورع فيه احد اعضاء الكونجرس من غلاة اليمين الجمهوري عن الدفاع عن “BP” واستنكاره الحملة الحكومية الامريكية عليها، في حين مازال السواد الأعظم من المراقبين المحايدين والناس يعتبرون الحملة الحكومية أصلا ناعمة وليست حازمة بما فيه الكفاية ازاء تسويف ومماطلة الشركة النفطية البريطانية عن التعويضات المستحقة ووقف التسرب بأقصى سرعة ممكنة.
لقد قلنا في مقال سابق ان خليج المكسيك الكبير قبل بقعة النفط المتسربة لا تقارن نسبة تلوثه بتلوث خليجنا العربي الاصغر مساحة والاكبر تلوثا، وهنا يصح السؤال: كيف يمكننا ان نتوقع أو نتفاءل بأن تعلن دول مجلس التعاون أقصى حالة استنفارها وتنسيقها المشترك للاستفادة من دروس كارثة تلوث خليج المكسيك.. نقول: كيف لنا ان نتوقع ذلك منها وهي مازالت محجمة ليس عن تنظيف خليجها من شتى اشكال التلوث فحسب بل معظمها مسئول أو ضالع في تلويثه وقتل الحياة البيئية فيه وان بنسب متفاوتة؟

صحيفة اخبار الخليج
30 يونيو 2010