حتى الآن ما زال جُهدُ الترجمة العربية موجهاً للنقل من اللغات الأوروبية . ليس تحت أيدينا بيان أو إحصاء بهذا الخصوص، ولكن نظرةً عامةً على الكتب المترجمة تجعلنا على يقين بأن هذه الكتب نُقلت إما عن الفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية، وفي العقدين الأخيرين عن الإسبانية.
وبالتالي فإن «الآخر» بالنسبة إلينا كقارئين للترجمات، هو الآخر الغربي الذي كدنا نختصر فيه العالم، ناسين أن في هذا العالم لغات أخرى عريقة ثرية شكلت وعاء خصباً لثقافات عظيمة خاصة في آسيا، وليس من سبب يدعونا لعدم الاهتمام بالثقافات الصغيرة، أو بالأحرى ثقافات الشعوب الصغيرة، فمثل هذه الثقافات قادرة هي الأخرى على أن تقدم أسماء لامعة في مجال الإبداع والفكر.
نحن العرب موزعون على قارتين عظيمتين هما آسيا وإفريقيا. هنا كان مهد الحضارة العالمية، ولكن جهلنا بثقافة وأدب شعوب هاتين القارتين يكاد يكون مُخزياً .
ماذا نعرف عن ثقافة الهند مثلاً؟ حتى طاغور وصَلنا كصدى لاهتمام الغرب به، لسنا من اكتشفهُ أو سعى لمعرفته. وماذا عن الصين، ثقافةً وتاريخاً وأدباً، إذا ما استثنينا تلك الشذرات التي قدمها بعض المأخوذين بعمق هذا البلد وغرابته وعراقته مثل الراحل هادي العلوي؟
ومن نعرف من باكستان سوى محمد إقبال، وماذا نعرف عن إيران القريبة جداً التي تشاطرنا التاريخ والجغرافيا؟ إن «الآخر» القريب منا، الآخر الشرقي، والآخر المسلم، الآخر الآسيوي والآخر الإفريقي، مجهول تماماً أو يكاد يكون مجهولاً من قبلنا. نحن نعرف بعض المعرفة الغريب البعيد ولكننا نجهل كلياً جيراننا.
الترجمة إلى العربية، إذاً، ليست عشوائية فقط وخاضعة لمبادرات المترجمين أنفسهم، وإنما هي أيضاً انتقائية في اختيار اللغات التي تجري الترجمة منها، وليس خافياً علينا أن المركز الحضاري العالمي هو اليوم في الغرب، سواء كان ذلك يروق لنا أو لا يروق، لكن هذا المركز كان دائم التنقل من قارةٍ إلى قارة على مدار التاريخ الإنساني، وليس من المؤكد أنه سيبقى في المكان الذي هو فيه الآن.
ولكن من شأن المركز أن يكون بؤرةَ الجديد في كل شيء، بيد أن العالم هو دائماً في حالة سيرورة وتحول، وبوسع شعوب وبلدان مغمورة حالياً، أو قابعة في الجانب المعتم من دائرة الضوء أن تكون لها مساهماتها الثرية في الفن والإبداع والفكر والفلسفة.
لا يمكن التعرف على مقادير التنوع الثقافي في عالم اليوم، أذا ظلّ اهتمامنا منحصراً في وجهة واحدة، خاصة وأن الثقافات المختلفة تعبر عن رفضها التنميط الثقافي الذي يُراد فرضه على العالم، من خلال النماذج الابداعية التي تُقدمها والتي يرتقي بعضها الى مستوى العالمية، ولكنها تظل مهددة بالاقصاء والتهميش لصالح النموذج المسيطر عالمياً، والذي يمتلك آليات تسويقه الفعالة.
ثم تأتي عشوائية خطط الترجمة الى اللغات الأخرى، بما فيها لغتنا العربية في الحيز الذي يعنينا، لتسهم في هذا الأقصاء، لأن هذه الخطط لايمكن أن تظل محصورة في المبادرات الفردية للمترجمين أنفسهم، أو في بعض دور النشر المحدودة المهتمة، وانما يجب أن تتبناها جهات نشر مقتدرة ومدعومة من الحكومات ووزرات الثقافة فيها.
صحيفة الايام
21 ديسمبر 2010