المنشور

حين يأكل النقدُ الجيـوبَ


النقدُ أداةُ تداولٍ ورمزُ قيمةٍ، ومؤشر اقتصاد وشكل تاريخ.
يُفترض أن يقوم النقدُ بدوره كمعادلٍ موضوعي للسلع لكنه لا يقوم بذلك فقط، بل يتمرد ويهيمن بذاته أيضاً، بل يتحولُ إلى كائنٍ معبود وهو الصنم الحديدي أو الورقي.

لقد اجتاحت موجاتٌ من التضخم العالم، وتركزتْ في ارتفاعِ أسعار السلع الأولية، خصوصاً منها السلع الغذائية وأسعار الطاقة، وعلى وجه الخصوص أسعار النفط (.
 
وتوضح أحدث معلومات صندوق النقد الدولي ما يلي:
 
أولاً: ان أعلى متوسط سنوي لمعدل التضخم للفترة 2000-2004 قد سُجل بحوالي 3% لدولة الإمارات العربية المتحدة؛ بينما سُجّل أدنى متوسط له لسلطنة عُمان وبلغ حوالي سالب 30 %
ثانياً: ان المتوسط السنوي لمعدل التضخم في دولة الكويت لنفس الفترة قد بلغ 1,2%.
 
ثالثاً: انه وفي ماعدا مملكة البحرين التي حافظت على معدل متدن يقل عن 3% حتى عام 2007، فقد شهدتْ باقي دول مجلس التعاون ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات التضخم خلال الفترة منذ عام 2000).

البحرين وعُمان تنتميان إلى الدول الفقيرة في المنطقة بينما تنتمي الكويت والسعودية وقطر والإمارات إلى الدول الغنية، ولهذا فإن الظاهرات النقدية مختلفةٌ بين الفريقين، فثمة دولٌ تضخُ كميات هائلةً تنتشرُ في الاقتصاد برمته وبين أغلبية الناس المواطنين، في حين لا يحدث ذلك في الفريق الآخر.
مستوى معيشة الشعبين العُماني والبحريني لا يتحمل أسعاراً بهذا الارتفاع نظراً للدخل المختلف، أي أن معدلات الأجور شديدة التباين بين الفريقين.

إن تصاعدَ معدلاتِ التضخمِ في تلك الدول الثرية مؤشرٌ كذلك على تصاعد مستوى المعيشة، فالسكان يتمكنون من بناء بيوت فخمة واسعة، ويؤثثونها بشكل عال، وترتفع الفئاتُ الوسطى لمقاربة الأغنياء، وينتشرُ ذلك الرفاه في الاقتصاد وبين مجمل السكان المواطنين فيتأثر به النقدُ وتنسحب الأسعار على مجمل السلع.

انتعاشُ الاقتصاد تضعفه معدلاتُ الأسعار المرتفعة، وكلما ارتفعت معدلات التضخم جسد ذلك تطور مستوى معيشة الناس الاقتصادية، وكذلك وجود فئات تجارية واقتصادية وسيطة تستغل هذه الزيادات في تكوين مواقع لها.

الفئات الوسيطة المستفيدة من التضخم أصغر في عُمان والبحرين، فهي لا تجد أشياء كبيرة تستفيد منها سواء لصغر السوق أو لكمية الدخول النفطية في البلدين. وهذا لا يعني جمود التضخم عند رقم معين، أو بقاءه في سلعة معينة، بل هو يقفزُ من سلعةٍ إلى أخرى حسب مستوى الاستغلال فيها، فإذا تدفقت الموادُ الغذائية وتصاعد الطلب عليها كما حدث في عُمان في إحدى السنوات يرتفع التضخم عن المعدل المنخفض السابق.

إن معيشة الفقراء لا تسمح أن تتصاعد أسعار المواد الأولية الغذائية إلى ما فوق معدلها الطبيعي، وهي مواد غذائية شبه ثابتة محدودة القيمة، في حين يتشكل في الاقتصاد الغني بمدخوله النفطي تنوعٌ في معروضِ هذه المواد الغذائية ويغدو التضخم فيها وارداً. وهذا نجده لدى العمالة الأجنبية أقل قيمة بكثير وأدنى سعراً.

تحسن الإيراد النفطي وضخامة فوائضه في دولٍ الثراء النفطي ينعكس فيها بتوسع المشروعات الاقتصادية والعمرانية وزيادة معدل التضخم، فالرمز النقدي هنا دليل عافية وصحة اجتماعية وثراء يتغلغل بين العامة، كما أنه شكل استغلال سياسي اجتماعي، بتوسع الفئات الغنية والوسطى وقيام طباعة الورق النقدي وإيجاد ثراءات ومشروعات كبرى ومشكلات اقتصادية كذلك.

تتكون فئتان نقديتان كبريان في كلِ دولة خليجية، فالفقراءُ والعمال وخاصة العمال الأجانب يتجمعون في قطب نقدي يدافع عن أسعار المواد الضرورية والإيجارات المنخفضة ويقاوم التضخم، والفئات الوسطى تتأرجح تتداخل مع الفئات الغنية في تكوين أسعار مرتفعة، فتشكل لها سوقاً خاصة وخدمات مختلفة، لكن الفئات الوسطى هي التي تتركز فيها الديون والتآكلات الاقتصادية بحكم اندافعها للاستهلاك وطموحها الاجتماعي، وتجمح بين أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في السياسة.

 
أخبار الخليج 29 ديسمبر 2010