المنشور

أسانج أطلق صفارة الإنذار فقط


“صفارة إنذار” هو تدبير مستحدث في السنوات القليلة الماضية ضمن حزمة من التدابير والضوابط التي توفر للمؤسسات والشركات إدارة حصيفة ونوعية للموارد وأداء متميزاً يكفل لها تحقيق أهدافها وبضمنها صيانة أصولها والمحافظة عليها وتحقيق معدلات الربحية المستهدفة، وذلك في إطار يسمى بأنظمة حوكمة الشركات .
 
والمقصود ب “صفارة الإنذار” هو قيام الشركة بوضع خط ساخن بتصرف كافة العاملين فيها لإتاحة الفرصة لأي واحد فيها بالتبليغ عن أية مخالفة، سواء أكانت رشوة أو فساد أو اختلاس، وتنبيه المسؤولين للخطر الذي تمثله مثل هذه المخالفات على مصلحة الشركة ومصلحة الاقتصاد الوطني الذي يمكن أن تتأثر سمعته من جراء مثل هذه المخالفات خصوصاً لدى وكالات التصنيف الدولية .
 
بهذا المعنى فإننا لو أمعنا النظر جيداً بما قام به مؤسس موقع “ويكيليكس” الأسترالي جوليان أسانج من نشر لوثائق سرية أمريكية تتعلق بالأسرار التي تلف تطبيقات السياسة الأمريكية الخارجية في أنحاء مختلفة من العالم، خصوصاً في البلدان والمناطق التي غزتها واحتلتها القوات المسلحة الأمريكية (العراق وأفغانستان تحديداً) والأخرى التي تشن فيها عمليات هي مزيج من الحرب السرية والعلنية (باكستان واليمن مثلاً)، وأسرار أخرى تتصل بحقيقة المواقف والسياسات الأمريكية من قضايا عالمية تصل بمؤسسات ومنظمات دولية مثل الأمم المتحدة وأنظمة حكم في العوالم الأول والثاني والثالث وغيرها  نقول لو أمعنا النظر فيها بتمعن فسنجد أنها نسخة طبق الأصل من تطبيقات قواعد وأخلاقيات الحوكمة، إنما هذه المرة على صعيد كلي قياساً لصعيد تغطيتها الجزئي المتعلق حصراً بالشركات والدوائر المؤسسية الحكومية . فالحديث يدور هنا  أي في حالة صاحب فكرة “ويكيليكس”  عن صفارة إنذار ل “الشركة الأم” التي يمكن أن نتمثلها هنا في الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية الصراعية التي تنتظمه .
 
ف “صافرة” فريق “ويكيليكس” أرادت تنبيه الرأي العام العالمي إلى وجود انتهاكات بالغة الخطورة للقانون الدولي ولأعمال قتل وتعذيب وفساد وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، متورطة فيها حكومات دول قائدة في النظام الدولي لطالما رفعت عقيرتها “دفاعاً” عن حقوق الإنسان وذرفت دموعها (التماسيحية) على تلك الحقوق المهدرة .
 
كان لا بد لهذا الكشف المدوي أن يسبب صدمات هائلة للعالم بأسره . صدمة للرأي العام الدولي الذي هاله حجم تلك الانتهاكات الجسيمة و”وزن” المتورطين فيها، وقبل ذلك صدمة لكبار المتورطين فيها، ولا سيما الولايات المتحدة التي تعتبر صاحبة الامتياز والحق الحصري في اختراع ما يسمى بمقاربة “العلاج بالصدمة”، فإذا بجهة أخرى هي جماعة موقع “ويكيليكس” تستخدم نفس المقاربة في إحداث حجم الدوي المطلوب للفت أنظار العالم . أي أن الولايات المتحدة التي لطالما سعت لإقناع بقية العالم بنجاعة وفعالية “سلاح” العلاج بالصدمة، قد خلقت من حيث لا تدري من “استوعب درسها” ولم يجد سوى اقتراح سلاحها الوجيه لمعالجتها به هي أيضاً .
 
وكان لا بد له ل (الكشف المدوي إياه) أن يُوجِد (بكسر الجيم) من جديد سوقاً رائجة لنظرية المؤامرة وأن يعيد إنعاشها، خصوصاً في منطقتنا العربية التي تمسكنت مع القراءات والتحليلات السهلة التي تتطلب جهداً فكرياً وعصفاً ذهنياً “مرهقين” .
 
فما الذي فعله جوليان أسانج لكي تطالب “المؤسسة” الأمريكية الحاكمة برأسه؟
 
هل لأنه أراد القول، من خلال إغراقه مواقع المعرفة بآلاف الوثائق المصنفة أمريكياً على أنها سرية  أراد القول هذه حقيقة أمريكا وهذا هو وجهها الآخر المخفي؟ أم لأنه  في التفاصيل  أجبر زعامات “المؤسسة” الأمريكية الحاكمة وقياداتها على فضح المفهوم الأمريكي للإرهاب والمتمثل في أن كل من يعارض أمريكا وسياستها فهو في نظرها إرهابي، وذلك اعتباراً بتصنيفها جوليان أسانج على أنه إرهابي؟
 
وأيضاً في التفاصيل . . تفاصيل عنوان كشف الوجه الآخر للولايات المتحدة  لأنه اضطرها لفعل ما لم تفعله ربما إلا نادراً، وهو التعبير العلني، وبأبشع الصور وأكثرها فجاجة، عن ضيق صدرها بالنقد وعدم تقبلها للرأي الآخر وازدرائها بحرية التعبير، وهي التي لطالما شنفت الآذان بدفاعها عن “قدسية” هذه القيم والمبادئ؟
 
ربما يكون فعل كل ذلك، وربما يكون قد آذى وألحق ضرراً فادحاً بالنظام السياسي في الولايات المتحدة وبطبقتها الحاكمة على قاعدة الثنائية الحزبية الحصرية . ولكن جوليان أسانج هو ابن النظام الكوني المتصاهر والمتكامل الذي أنشأته امبراطوريات الرأسمالية العالمية . وهو لم يعمل من خارج إطارها ونطاقها أو أنه استخدم أدوات ووسائل غير تلك التي اخترعتها وأنشأتها .
 
ثم إن علينا أن نتذكر هاهنا أن جوليان أسانج الذي أزعجهم باستخدامه إحدى أدواتهم، ظل يحظى بالتقدير والتكريم منذ أن أطلق موقعه الشهير “ويكيليكس” في عام ،2006 حيث حاز في عام 2008 جائزة مجلة ال “إيكونومست” لمقاومة الرقابة، وحاز في عام 2009 جائزة منظمة العفو الدولية في مجال حقوق الإنسان والصحافة بفضل كشفه لعمليات الاختفاء السري والقتل العشوائي للمعارضين في كينيا .