المنشور

مواجهة أخطر تداعيات الأزمة


يدرك كل حريص على هذا الوطن وعلى مستقبل أجياله أن الانشطار الطائفي العميق الذي قسَّم هذا المجتمع الصغير إلى نصفين متنافرين هو أخطر التداعيات التي خلفتها الأزمة. نحن اليوم شارعان لا نلمس ملتقى منظور بينهما ورغم أن مظاهر الأزمة إلى تراجع لكن تداعيات الانقسام الطائفي إلى تعمق يوسِّع الهوّة بين الشارعين ويدق إسفينا في بنيان الوحدة الوطنية فيصيبه بتصدع قد يعرقل كل خطط التنمية والتحديث المجتمعي.
أثناء الأزمة مارس أكثر من طرف أدواراً سيئة وسلبية في الشحن والتأجيج الطائفي، كان لبعض الأجهزة الرسمية دور رئيسي في إذكاء الروح الطائفية بما تملكه من وسائل أمنية وإعلامية في إدارة المجتمع، وكان لهيمنة قوى الإسلام السياسي الطائفي (شيعي وسني) على الحدث وعلى مزاج وتوجهات الناس أثره السلبي في غلبة الخطاب والاصطفاف الطائفي، هذا إلى جانب دور الإعلام الخارجي الموجه ودخول دول إقليمية وعالمية على خط توجيه الحدث البحريني.

وان اقتربنا بمستوى أكثر شفافية فسنقول بأن الشارع الشيعي المسيس في عمومه قد استُنفر من قبل رموزه الدينية وتشكيلات قواه السياسية وقياداتها، وفي ظل روح المظلومية التاريخية المتأصلة تم التركيز على مقولات التمييز والتجنيس ضد الطائفة الشيعية وحقوقها المهدورة على هذه الأرض، وعلى هدي انفجار الشارع العربي بالثورات تم تحريك الآلاف من المشحونين بهذه الروح نحو الدوار.
وبالمقابل وبشكل متواز استُنفر الشارع السني غير المسيس في عمومه بخطاب رسمي ينفرد بحوزة الأجهزة الإعلامية المؤثرة (مقروءة، مرئية ومسموعة)، وكذلك بخطاب الشحن والاستنفار الذي صدر عن رموز النخب القيادية السنية والذي ترَّكز على مقولة أنْ: تحركوا فهناك خطر قادم يداهم وجودكم ويهدد بقاء قيادتكم وسيصادر حقوقكم في هذا الوطن، انتشر ذلك الاستنفار كالنار في الهشيم وأوغر القلوب ليحرك الآلاف التي توجهت نحو الفاتح.

ليس من شك في أن عديد المطالب التي طُرحت بداية الحراك كانت مطالب وطنية عامة ومشروعة، وليس من شك أنه في إطار وطنية تلك المطالب تفاعل رموز القيادة بمستويات ايجابية متحضرة مثلما تفاعلت القوى السياسية غير الطائفية والشخصيات الوطنية الديمقراطية والليبرالية.
لسنا من دعاة القول بوجود مؤامرة ضد النظام أو للإطاحة بالنظام فهذه تهمة خطيرة ليس بيد أحد إثباتها سوى الأجهزة الأمنية ولا يبت فيها سوى قضاء نزيه، لكن الأحداث تصاعدت وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن الوطنية. وأخذ الحراك المطلبي يتجه وجهات أخرى حين ركبت الموج توجهات متطرفة لنجد المطالب الوطنية المشروعة وقد نُحيَت وارتفع سقف خطاب المطالبات ليمس شرعية النظام الدستورية واتجه الحراك نحو تعطيل المجتمع وشلِّ أهم شرايينه المغذية بالحياة والنماء، هنا تفجر الوضع وأصبح المجتمع على حافة الاحتراب الطائفي.

اليوم يجني المجتمع حرث أبنائه فهناك أزمة ثقة بالغة وهناك ريبة وتوجس يصل لدى البعض إلى شعور مدمر بالكره والعداء، وهل يُبنى وطن وتجري تنمية مجتمع منشق إلى نصفين؟ هل هناك نماذج على مجتمعات مُدمَرة ومُعَطلة التنمية بما نخرته الطائفية في بنيانها أسوأ من لبنان والعراق؟ غير مقبول التبرير من أي طرف كان فكلٌ يحمل وزرا فيما بلغناه وحري به أن يتحمل نصيبه من الذنب ونصيبه من واجب إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.
تبقى الأسئلة الملحة: هل من حلول وهل من مخارج؟ ما هي سبل المواجهة الفاعلة؟ نقول وبشفافية تضاهي شفافية الحديث عما جرى من حشد واستنفار على الضفتين: لن نتمكن من مواجهة أخطر تداعيات الأزمة إن لم يتوافر لدى جميع المعنيين فهمٌ حقيقيٌ لخطر هوة الانشطار الطائفي السحيقة التي سقط فيها هذا المجتمع وصدقُ نية لمواجهة هذا الخطر ثم الإتيانُ بخطوات عملية تنفيذية تحقق المواجهة والعودة للوضع الطبيعي السابق.

أول المخارج بظننا هو وقفٌ فوريٌ للردح والشحن والاستفزاز الطائفي الذي مازال مستمراً في جنبات كل شارع، مازال استفزاز مشاعر وردود فعل الشارع الآخر قائماً، مازال الكثيرون من حيث يدرون أو لا يدرون يرتكبون أكبر جريمة قد تودي بمستقبل هذا المجتمع وتعيق سبل نموه وتقدمه. إزالة العفن الطائفي مسئولية تُناط بأكثر من جهة ويفترض أن تتخذ مكاناً بارزاً على أولوياتها، علينا أن نلج جميعاً طريقاً تغادر بنا الأزمة وتداعياتها من هذا الباب ولا باب غيره في مثل ما بلغناه.

وفي إطار مواجهة هذا التداعي الخطير لابد من إبداء الشكر والثناء لهيئة شئون الإعلام على اتخاذها خطوات عملية بوقف بعض برامج التلفزيون الرسمي التي مارست الشحن الطائفي وغذته وأوغرت الصدور إبَّان تصاعد الأحداث وما بعدها. نقدّر كثيراً لهيئة شئون الإعلام تلك الوقفة ونقدّر توجيه بعض البرامج وجهة بناء يلملم الصف الوطني ويضمّد الجراح بدل أن يحرض النفوس ويوغر القلوب، ونتمنى عليها فتح المجال الإعلامي الداخلي أمام كافة القوى السياسية لتعبر عن آرائها في ظل الالتزام بالشرعية الدستورية وقوانين المملكة وأنظمتها.
وفي أجواء قبول الآخر التي أشاعتها قاعات حوار التوافق الوطني وأروقته نتمنى على الدولة وقوى المجتمع خطوات ايجابية أكبر وأبعد على غير اتجاه وصعيد.

نتمنى على الأجهزة الرسمية وقفاً حاسماً متجاوباً مع رغبة القيادة لكافة أوجه العقاب الذي لا تسنده تهم الإخلال بالقوانين والأنظمة والمستجيب فقط لنزعات انتقامية أو المنساق وراء وشايات أو خصومات شخصية بتهم واهية كمجرد الذهاب إلى الدوار أو التواجد فيه. إن أخطر ما يزرع الغضب ورد الفعل المناهض إن لم نقل العنيف هو مصادرة الحريات وقطع الأرزاق وسحب اللقمة من الأفواه.
ونتمنى على الأجهزة الرسمية أيضاً توجيه صحف وأقلام تفرغت للردح والشحن والاستفزاز الطائفي فقط لا غير فلا قضية لديها سوى الوفاق وما فعلته الوفاق وما قاله علي سلمان أو ما صرح به خليل مرزوق. كم هي مضيعة لمسئوليات وطنية أخرى منوطة بالصحافة، ألا يلاحظ هؤلاء أنهم مهما كتبوا فالوفاق موجودة وصوتها هو المسموع؟!!
ونتمنى على نخب السياسيين والمفكرين والمثقفين والاقتصاديين وعلماء الدين وخطباء المساجد وكل من يملك صوتاً مسموعاً بين الناس في الشارعين أن يتحمل مسئوليته في تفعيل دور وطني جامع نابع من المبادئ الديمقراطية التي يحض عليها دستور المملكة ومن قيم الحرية والتسامح وقبول الآخر.

وما دام هذا المجتمع قد ابتُلي في الشارعين بوجود قوى سياسية قائمة فعلاً على أساس طائفي ويتمحور جوهر حراكها وخطابها السياسي على استحقاقات طائفية، فليس أمامنا إلا أن نتوجه لها وبالاسم لتتحمل مسئوليتها الوطنية ونتمنى عليها النأي – في هذا الظرف الدقيق والحساس- عن التحشيد الطائفي لشارعها وعدم استنفار الحس الطائفي في الشارع الآخر. المطلوب من كل من يقود جمعيات المنبر الإسلامي والأصالة الإسلامية وتجمع الوحدة الوطنية ويتحدث باسمها وقف الخطاب المحرض ضد الطائفة الأخرى ووقف المحافل التي تُنظم تغذيةً لهذا الهدف بل وإسكات جميع الأصوات المحسوبة عليها التي تشطح بما يوغر الصدور في شتى الوسائل الإعلامية داخل البحرين وخارجها، كما نتمنى عليها نشر الوعي الأسري في المنازل بالطبيعة التعددية لهذا الوطن وبحق كل أفراده وطوائفه أن يحيوا تحت سمائه ويتمتعون بخيراته.

ونتمنى على جمعية الوفاق الوطني الإسلامية أن توقف أي خطاب يذهب إلى أنها تتحدث باسم شعب البحرين بأكمله، ففي ذلك استفزاز لمشاعر الطائفة الأخرى ولباقي مكونات المجتمع، كما نتمنى على الوفاق وقف تغذية حملات الإعلام الخارجي بمشاركات من أعضائها أو المحسوبين عليها بما يستفز الشارع الآخر ويوغر صدور المتطرفين فيه بل ويعزّز من جانب آخر روح الانتقام والقصاص من أبرياء كُثرٍ غير مشمولين بالوجاهة السياسية.

ونتمنى على قوى التيار الوطني الديمقراطي أن توسِّع حضورها المستقل والموحَّد (يا ليت) على الساحة السياسية وتعزّز وتفعّل خطابها الوطني الديمقراطي غير الطائفي. ونتمنى على جمعية الصحفيين بقدر ما تتصدى للدفاع عن حقوق الصحافيين أن تؤكد على واجبهم الإعلامي الوطني اللاطائفي.

أخيرا ليت حوار التوافق الوطني يخرج بمرئية اقتراح قانون يجرِّم الشحن والاستفزاز الطائفي وليت أجواء رمضان المبارك المفعمة بالتواصل والحب والتسامح تذيب ما علق بالقلوب من نفور وبغضاء
 
صحيفة الوسط البحرينية – 19 يوليو 2011م