المنشور

ضعف بنية العقلية الحداثية العربية


لا بد أنكم تتذكرون في حوالي منتصف ثمانينات القرن الماضي كيف انقسم رفاق الأمس في الحزب الاشتراكي اليمني في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قبل الوحدة، وتحولوا إلى قبائلهم وامتداداتهم العشائرية طلباً للحماية والدعم من وضد بعضهم بعضاً، حيث خاضوا في ما بينهم حرب تصفيات ضروساً انتهت بتقلص قيادة الحزب والدولة إما قتلاً وإما نفياً أو هروباً إلى الخارج .
 
اليوم يحدث الشيء نفسه في لبنان، حيث انشطرت البلاد إلى نصفين متواجهين تحول كل فريق فيهما إلى “عرين” طائفته وامتداداتها الإقليمية، وانقلب رأساً على عقب على كامل رصيد علمه الأكاديمي وثقافته المدينية (نسبة إلى المدنية) وفكره الحداثي المتراكم .
 
هذا رغم الفارق الشاسع في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي في الحالتين، ورغم الثراء الثقافي الذي ظل يتمتع به لبنان حتى وقت قريب والذي أهل عاصمته لأن تكون عاصمة النور في العالم العربي ومركز إشعاعه الثقافي والحضاري .
 
في العراق أيضاً وفي غير بلد عربي آخر ظهر من كانوا ينسبون أنفسهم إلى الوسط الحداثي، على حقيقتهم حين جد الجد وتطلب الوضع الناشئ منهم اتخاذ موقف غير مائع من المنجزات الحضارية لأجيالنا السابقة وقد أضحت هدفاً للمغامرين والطارئين ونهباً لتعدياتهم تحت شعارات وأردية مختلفة ومتخلفة، إذا بهم يقفزون وينحازون إلى مواقف عصبياتهم الإثنية والطائفية أو القبلية أو . .إلخ، والتي تشكل – من وجهة نظرهم – المصلحية والانغلاقية الفكرية على الأرجح، الوعاء والملاذ الآمن لصون وتمثيل هوياتهم الخاصة جداً .
 
ومثل هؤلاء الذين سرعان ما يلم بهم الاضطراب الفكري لدى أي انعطاف في الأحداث، مهما كانت حدته، لا يمكن التعويل عليهم في إحداث التحديث والتمدين و”التحضرن” (من حضارة) في مجتمعاتهم . فمن البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه .
 
بل لعل هذه الحقيقة هي التي تفسر عجز أوساط واسعة من النخب العربية عن المساهمة في رفع شأن المجتمعات العربية ومساعدتها على مواكبة العصر والتعاطي بإيجابية مع التحولات العالمية في مناحي الحياة المختلفة، وتركها نهباً للأنساق الإيديولوجية المتطرفة التي تحاول استغلال الفراغ والهيمنة على مقدرات هذه المجتمعات الباحثة، إلى يومنا هذا، عن نفسها وعن مكان يليق بها وتاريخها وعمقها الحضاري في هذا العالم الذي تتقاذفه تيارات التغيير المتدافعة .
 
ما الذي نستخلصه من هذا؟
 
نزعم أن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن دورة الفاعلية الاجتماعية المتوافرة عادة في المثقف العضوي، بما هي عليه من وعي بالقضية محور الاهتمام والانشغال، وهي هنا قضية إعمار الأوطان وتحديثها وتنويرها، والإيمان الراسخ الصادق بها – تتويجاً للوعي بها، وأخيراً ممارستها بالفعل الإيجابي الواعي- هي دورة غير مكتملة الأركان (الثلاثة المنوه عنها ها هنا) .
 
واستخلاصاً من هذا المعنى، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن بنية العقلية الحداثية العربية ضعيفة وهشة لا تقوى على مقاومة إغراءات وإغواءات أنساق التفكير التقليدية المحافظة، بسبب تجذرها، على ما هو باد في اللاوعي الكامن ولكن الجاهز والمتحفز لرد الفعل المتوجس والمضاد لأي مستجد “غريب” على تلك البنية، ناهيك عن البيئة المحيطة بها المحاصِرة (بكسر الصاد) لها من كل صوب “لضمان” عدم تفلتها والتحاقها بما “تهرطق” به من مفردات غير مستساغة من قبيل المعاصرة والحداثة والمواكبة .
 
وبما أن الثقافة السياسية ما زالت سطحية لدى عموم المجتمعات العربية، بسبب النسبة العالية من الأمية الأبجدية (تتخطى نسبة الخمسين في المئة في أكثر البلدان العربية تحضراً مثل مصر وتونس على سبيل المثال فقط) والنسبة الأعلى للأمية الثقافية، فليس هنالك فرصة للتعويل على الوسط غير النخبوي في التأثير الإيجابي في البناء الفوقي بما مؤداه تحييد وعزل عناصر التشويش العصابي الطيفي على الوعي الجمعي .
 
ومن المفارقات هنا – التي يحفل بها عالمنا العربي على أية حال – أن المرء يشعر أحياناً بأن الدولة العربية الحديثة بما تأخذه على نفسها من التزامات دولية من خلال الالتحاق بمنظمات واتفاقيات ومواثيق دولية، اضطراراً ومواكبة للاتجاهات العامة والغالبة في نظام العلاقات الدولية، واستحقاقاته ومتطلباته التي يفرضها على كافة الدول الأعضاء التواقة لأن تكون جزءاً فاعلاً فيه، مؤثراً ومتأثراً بعملية حراكه الواسعة النطاق والشاملة لقاعدة عريضة من النشاط الإنساني .
 
وفي ضوء ذلك تبدو الدولة العربية في حالتها الراهنة المتعصرنة برسم الواقع الموضوعي الدولي (المتعولم بشدة)، أكثر قابلية واستعداداً، في كثير من الأحيان، من أوساط نخبوية عريضة حداثية الزعم، للتعاطي مع استحقاقات التحديث والتطوير (الشامل وليس المجتزأ والانتقائي) .
 
ومع ذلك علينا أن نتوخى الحذر هنا أيضاً، فهذا التفاعل ليس نابعاً من نظام معرفي واع ومقتنع لدى القائمين على جهاز الدولة العربية التسييري، بقدر ما هو شكل مع أشكال التساوق مع مقتضيات الانتماء للكتلة الدولية المتحركة كما أسلفنا .
 
فهي تميل، حسب معطيات واقع الحال، نحو التساوق أكثر مع تيارات “المحافظين الجدد” من حركات الإسلام السياسي لتيقنها من أن هذه لا تعير كثير اهتمام لقضايا التنمية بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بقدر اهتمامها “بعفاف وطهورية” المجتمعات التي ترنو إلى حكمها يوماً ما .


حرر في 16 يوليو 2011