المنشور

الماركسية.. علم، نضال، نتيجة


بفضل الاحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية، انتشرت الافكار الماركسية منذ بداية عشرينات القرن الماضي، وساهمت تلك الأحزاب في النضال الوطني ضد المستعمرين والرجعية العربية، واستطاعوا تنظيم صفوف العمال والفلاحين وسائر الكادحين والمثقفين في احزابهم المناضلة، التي قدمت تضحيات كبيرة من أجل الاستقلال الوطني والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتعرضت لضربات قاسية وموجعة من قبل القوى الاستعمارية والرجعية العربية.

شابت تجربة بعض الأحزاب الاخفاقات والاخطاء، نظراً للصراعات والانشقاقات الداخلية على زعامة هذا الحزب أو ذاك، وبالرغم من هذه الظروف الصعبة التي عاشتها، الا انها حققت العديد من النجاحات والاسهامات في تأصيل وترسيخ الأفكار والثقافة التقدمية في اوساط واسعة من المجتمع، وبانهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات من القرن الماضي، زاد الوضع تعقيداً وصعوبة في الحياة الداخلية للعديد من الاحزاب الشيوعية والتقدمية في البلدان العربية، وبدأ التراجع والانكسار للعديد من الماركسيين، بان تلك الاحلام الكبيرة، لن تتحقق في بلدانهم بفقدان النموذج الاشتراكي في العديد من البلدان الاوروبية.
وبدأ يتسرب في داخل بعض الفئات الماركسية اليأس والاحباط، حيث لم تعد الماركسية اللينينية ملهماً ومرشداً لهم في النضال الوطني ضد الرجعية والراسمالية المتوحشة، لم يعد حلم المجتمع الاشتراكي القائم على المساواة والعدالة الاجتماعية، وعدم استغلال الانسان لأخيه الانسان، هدفهم الذي يجب بأن يواصل طريق النضال من أجل تحقيقه.
 
بدأ الجدل والتنظير في أوساط الماركسيين والمثقفين التقدميين، وبدأت تثار الأسئلة العديدة: هل الخلل في النظرية أو التطبيق، ومن المسؤول عن تلك الأخطاء القاتلة، التي افرغت الاحزاب الشيوعية الحاكمة في البلدان الاوروبية، “شرق اوروبا” من مضامينها ومبادئها التي تأسست وناضلت من أجل تحقيقها عقوداً من السنين وبدأ البعض منتشياً بالافكار الليبرالية الجديدة وبالعناوين الكبيرة والعريضة التي روجت لها الماكينة الاعلامية الرأسمالية في تلك البلدان مستفيدة من الأخطاء والإخفاقات الماضية، ونشأت فئات اجتماعية جديدة وطفيلية في تلك المجتمعات الاوروبية الشرقية بما فيها جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
 
جاءت الأزمة المالية في اكتوبر من عام 2008 التي عصفت بأقوى رأسمالية امبريالية في العالم الولايات المتحدة الامريكية، عندما انهارت الاسواق والبورصات والبنوك المالية، بشكل سريع، وشملت العديد من الدول الأوروبية وبعض بلدان ما يعرف بالعالم الثالث، (آسيا، افريقيا، امريكا اللاتينية) ولا زالت اثارها مستمرة، حينها تذكر الاقتصاديون ورجال المال في تلك البلدان كارل ماركس وكتابه “رأس المال” وأهميته، في تشخيص الوضع الاقتصادي وكيفية الاستفادة منه.
 
اتضحت للعديد من الماركسيين السابقين بأن الليبرالية الجديدة لا تستطيع أن تحقق حلم الانسان في المساواة والعدل، طالما هي قائمة على استغلال الانسان، وتفضل الصفة الفردية على الصفة الجماعية، بمعنى ان الفرد قادر بأن يخلق له امبراطورية رأسمالية كبيرة في ظل التنافس، الربح والخسارة في ظل اقتصاد السوق، لا يسأل، عن كيف نشأت وتحققت تلك الامبراطورية المالية لهذا الفرد من المجتمع، بل هي انجازات ونجاحات حققها “الفرد” في المجتمع الرأسمالي على حساب الملايين من الناس، فقط بفضل (الابداع والذكاء) ليس من خلال (الاحتيال والرشوة والمحسوبية).
 
نعود من جديد لفهم الماركسية التي هي علم، يعتمد على المنهج الجدلي في التحليل والبحث، أي قائم على المادية الجدلية والمادية التاريخية في فهم المجتمع وتناقضاته وصراعاته وتطوره، من خلال استنباط الواقع وصيرورته ومعرفته بشكل ديالكتيكي، بالربط ما بين الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل، لهذا تتطور الماركسية، بتطور العلم ومعارفه ومناهجه، وساهم العديد من الشيوعيين، بتطوير الأفكار الماركسية، من لينين وغرامشي وغيرهم، ولم يتأت لهم هذا الاستيعاب والمعرفة الواسعة للنظرية الماركسية، الا من خلال دراسة واقع بلدانهم ومقتضيات النضال والتغيير فيه، لهذا كتب، لينين، لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية، حيث استطاع من خلال قيادته لحزب البلاشفة، بأن تنتصر الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية عام 1917، في أضعف الحلقات، أي في روسيا الزراعية، وهذا يعتبر تطور هام ومؤثر في فهم النظرية الماركسية وبفضل المساهمة الكبيرة في تطويرها.

ماركس كتب بأن الثورة الاشتراكية أو ثورة العمال، سوف تنتصر في انجلترا أو ألمانيا، فرنسا، ولكن لينين غير ذلك الفهم النظري واستطاع تطوير الفكرة الماركسية من خلال الواقع الملموس لبلاده، بامكانية قيام الثورة وانتصارها، هذا يعني بأن الزمان والمكان هو الذي يحدد قيام الثورة وتطبيق المفاهيم والأفكار النظرية على الواقع، أي عندما تحين الفرص التاريخية.

فيما يجرى في بلداننا العربية من ثورات وانتفاضات واحتجاجات هي بدايات أولية نحو احداث التغيير والاصلاح الحقيقي في مجتمعاتنا العربية، بعد ان سادت فيها أنظمة سياسية شمولية ورجعية، تستمد قوتها وسلطتها بالاعتماد على الاجهزة الاستخباراتية والأمنية والقوات العسكرية، لذا تستمر بالبطش والتنكيل بالمعارضين والمتظاهرين في المدن والقرى العربية الثائرة والمنتفضة في الوقت الراهن.
 
ففي هذه الظروف الصعبة والهامة من تاريخ شعوبنا وبلداننا، التي بدأت فيها الاحتجاجات والأحداث من خلال الكتابات في التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك و التويتر كان لها التأثير الكبير على هذا الجيل من الشباب العربي، و القوى السياسية العربية التي قادت النضال الوطني في بلدانها وقدمت تضحيات كبيرة فيه.
 
تلك القوى المناضلة لم تكن مهيئة بأن تكون في مقدمة الصفوف لتقود الجماهير المنتفضة والثائرة على أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتردية المتدهورة وانعدام الديمقراطية والحريات العامة، ومن أجل ايجاد البديل الوطني، القادر على تحقيق شعارات المرحلة الحالية وهي الحرية والكرامة والعدل والديمقراطية الحقة، شعارات التغيير التي ترفعها الجماهير في معظم البلدان العربية وهي لا زالت مستمرة في المطالبة بها، مهما كلفها من تضحيات، فبدلا من أن تتصدر المشهد السياسي القوى اليسارية والقومية، تبرز في العديد من الساحات العربية، القوى الاسلامية، من اخوان وسلف واسلام سياسي شيعي معارض، مثال البحرين.

إننا بصدد البحث في هذا الواقع، والحقيقة بأن التراجعات التي حدثت في صفوف القوى اليسارية والقومية، هي ليست وليدة الأحداث، بل هي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود في بلداننا العربية، بعوامل ومؤثرات عديدة، منها الموضوعي والذاتي، موضوعي قيام الثورة الايرانية في عام 1979 وقيادة رجال الدين للثورة والسلطة في ايران، وازاحة القوى اليسارية والديمقراطية من المشهد السياسي في ايران، باعتقال وقتل واعدام قياداتها وكوادرها وملاحقة الآخرين، وبروز شعار تصدير الثورة من قبل قادة الثورة الايرانية، واستقطاب المؤيدين للثورة الايرانية ومبادئها وشعاراتها، والعمل على نشر مبادئها وشعاراتها في المنطقة، وبعدها برزت القوى الاسلامية السنية، متمثلة في القاعدة، وجماعات اسلامية متطرفة أخرى.
 
افسحت بعض الأنظمة العربية المجال أمام القوى السياسية، أي الإسلام السياسي، بالعمل العلني لمواجهة القوى اليسارية والوطنية في العديد من البلدان العربية، ورفع شعار “الاسلام هو الحل” في الانتخابات النيابية والبلدية والنقابات والاتحادات الطلابية والعمالية والمحامين والاطباء والمهندسين، مما قوى من وجود تلك القوى الاسلامية وازدياد نفوذها وتأثيرها في المجتمعات العربية، بالاضافة الى سياسة الاقصاء والقمع والترهيب الذي مورس ضد الاحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية العربية وساهم في اضعافها وتأثيرها الجماهيري.
 
الوضع الذاتي، الخلافات والانشقاقات، ساهمت بشكل كبير في اضعاف القوى اليسارية الديمقراطية في البلدان العربية وإنهاك قواها وشل نشاطها، اضف الى فشل التجارب الجبهوية التقدمية بالمشاركة مع بعض الأنظمة العربية الحاكمة، سوريا والعراق سابقاً، فترة حكم البعث في السبعينيات، حيث غيب دور الشيوعيين في البلدين، من قبل حزب البعث الحاكم.
 
لهذا لا نستغرب عندما يتصدر المشهد اليوم في العديد من الدول العربية المنتفضة والثائرة القوى الاسلامية، وهي التي لها أهدافها وأجندتها الخاصة، في الحكم، يبرز بوضوح في بعض البلدان العربية، مصر وتونس.
 
امام القوى الماركسية والديمقراطية في البلدان العربية مهام كبيرة، بأن لا تقف متفرجة على ما يحدث في بلدانها، بأن ترفع مطالب الشعب التي طالما رفعتها في السابق ودافعت عنها وبأن تكون جزءً من هذا الحراك السياسي الكبير، وشريكاً فعالاً في صنع التاريخ الجديد، لكي لا تكون خارج التاريخ السياسي الحديث، وبأن تصوب وترشد الشعارات والأهداف، لكي لا تستغلها القوى الاسلامية المتشددة لتفرض اجندتها الخاصة على الجماهير المنتفضة، وتبعدهم عن هدفهم المطلبي والرئيسي في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، عليهم النضال من أجل التغيير وقيام اسس الدولة المدنية الحديثة القائمة على التعددية الفكرية والسياسية واحترام القانون والمؤسسات، دولة تصون حقوق الأقليات وتحترم معتقداتهم، دولة ديمقراطية حقيقية تسود فيها الحريات العامة، من حرية الرأي والتعبير والفكر والتنظيم والاعلام والتظاهر، دولة المواطنة الحقة، دولة لا تفرق بين المواطنين على اسس المعتقد أو العرق أو الجنس أو اللغة.
 
الماركسيون الحقيقيون هم المناضلون الحقيقيون الذين عرفوا بتضحياتهم وبتاريخهم المشرف في معظم البلدان العربية، وهم امام امتحان صعب يكونوا أو لا يكونوا، يقفوا مع نضالات شعوبهم أو مع المستبدين من قادة الأنظمة العربية.
 
فالماركسية ليست ترفاً فكرياً أو تنظيراً بدون تطبيق، بل هي علم وعمل ونضال لتغيير الواقع من خلال المشاركة مع الجماهير والمطالبة بحقوقها العادلة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وإحداث التغيير والتقدم الاجتماعي لمجتمعاتنا العربية. 
  
 
15/8/2011