المنشور

أيُّ الحلول لم يجرَّب بعد؟


عندما تنقل شاشات الأخبار في الأشهر الأخيرة مناظر لعشرات، بل مئات الآلاف من البشر وهم يحتشدون في الساحات والميادين والشوارع ضمن الهبّات الجماهيرية في شأن مطالب محددة؛ يخيّل للرأي أنها أمواج ولكنها بشرية تندفع في اتجاه تحطيم أو زعزعة بنيان مشيد من السلطات والتقاليد والإرث الطويل الذي خلف مرارة في حلوقها، يتبدّى هذا المشهد في عدد من العواصم التي أفلحت في الوصول المؤقت إلى بغيتها كتونس ومصر، أو تلك التي لا تزال تنتظر كاليمن، بينما لم تشكل الحالة السورية إلى اليوم، وعلى الرغم من فداحة الخسائر البشرية في الشوارع، هذا المشهد المتكرر، وكذلك فإن الوضع الليبي كانت له خصوصيته التي لم يُر معها هذا المدّ الجماهيري المرابط في الأماكن المفتوحة.

في المدن الساحلية، والجزر خصوصاً المنخفضة منها، فإن هناك ما يُعرف بـ «كاسر الأمواج» الذي أحد أبسط وأوضح تعريفاته أنه «عبارة عن حزام من الصخور ينشئ بالقرب من جزيرة ما من اجل ان يمنع الموج من الوصول الى الجزيرة الفلانية والاصطدام بها وبالتالي ان يأكل البحر جزءًا من تلك الجزيرة، كما يحميها من الامواج العاتية التي تهب ايام العواصف حيث يتكسر الموج السريع والضخم على هذا الكاسر ويصل الى المدينة التي يحميها وهو بطيئ ولا يمثل خطراً على مرتادي البحر او البنايات القريبة من الكورنيش او الساحل» [1] وهذا أحد الحلول البديهية التي تتخذ من أجل مقاومة هذه الأمواج وجعلها تفقد قوتها التدميرية، فالسواحل والبنايات ستقاوم الموج، ولكنها ستتصدع ولا شك، وسيلحقها الضرر أيضاً، وستكون هناك خسائر في الأرواح والممتلكات إن تركت هذه الأمواج من دون ما «كاسر» أو صارف لقوتها وطاقتها في اتجاهات أخرى.

وهذا ما يحتاجه أي نظام في مقاومة الأمواج البشرية التي يطول بها الاكتناز جراء عدم وجود لغة مشتركة ما بين السلطات والجماهير، والاطمئنان بأن هذه الجموع ستبقى ساكتة، خانعة، ما دامت القوة في يد السلطة.
في ما أسمي بـ «الربيع العربي»، قامت السلطات بتجربة جميع الوسائل المتاحة، من ترغيب وترهيب، القتل بات أرقاماً يجري تداولها بالعداد، السجون غصت وأنشأت سلطات سجوناً إضافية أقيمت على عجل، أو معسكرات اعتقال لمن لم تستوعبهم الجدران، التنكيل والتعذيب جرى على نطاق واسع، وفي أحايين يتوقف القارئ لدقائق غير مصدق أنه يجري بهذه التفاصيل التي تروى، وربما يشكك – ولو لبرهة – أنها من نسج خيال السجناء، وأنها من المبالغة التي تخرج الروايات عن سياقها، ولكن تواتر القصص في أكثر من مكان، وأكثر من مناسبة، وعلى مرّ السنين، وبتبدّل الوجوه والطواقم وغيرها من مستلزمات كل مرحلة، بل وبتطوير الأساليب وتعقدها ورجوع بعضها إلى الأصول التي من شأنها سلخ الإنسانية عن الإنسان، فإنها تصبح أقرب إلى التصديق، ومع ذلك لا تزال هذه الحركات مستمرة.

قبل ثلاثين عاماً تقريباً، جرّبت السلطات السورية قمع حركات الاحتجاج في حماة وحلب بكل الوسائل، حتى قيل انها دكّت حماة بالطائرات، بعد أن أغلقت لمنع سكانها من الخروج، فتراوح عدد ضحايا تلك المجزرة ما بين 10 آلاف و40 ألف مدني [2] ألا يكفي هذا لـ «تأديب» الشعب بعدم تكرار احتجاجاته؟ تبين بعد هذه العقود الثلاثة أنه حتى القتل لم يُخِف الناس، وخرجوا مجدداً، وفي فبراير أيضاً (إذ بدأت أحداث حماة من قبل «نظام الممانعة» في الثاني من الشهر نفسه 1982)، واليوم يعيد النظام نفسه، بتغير بعض الوجوه، الحل الذي استخدمه آنفاً، وبالشكل الذي اتخذه قبلاً، وبأعداد ستقارب ما جرى في تلك الفترة، إلا أن المتغيرات قادت لتطور المواجهة، إذ بعد أن كانت بين الأخوان المسلمين والسلطة، صارت بين الشعب والسلطة. وبدلاً من أن تكون في مدن محددة، باتت تنتشر وتنفتح. إذاً، ما الذي استفاده النظام من دروس في ظل شعب لا يريد أن يستوعب هذه الوجبات القامعة؟ وليست بقية المناطق والدول بأفضل حالاً من القصة النموذج.

أياً ما كانت الشرارات التي أشعلت الثورات العربية في أكثر من دولة، فإن الرجوع إلى أصل المسألة سيحيل إلى الأمواج ذاتها التي أفرزها البوعزيزي في تونس، وخالد سعيد في مصر، ونساء درعا في سورية، والأسر الحاكمة في الجمهوريات كليبيا واليمن، وعلى ذلك فقس.

لو تمت دراسة هذه الحالات في الدول العربية المذكورة، وغير المذكورة، والمرشحة يوماً أن تكون محوراً لأخبار مشابهة، ربما أكثر أو أقل عنفاً ودموية لما جرى، وقد تنجح فيها الحركات أو تنجح فيها السلطات، فإن المسألة هي ذاتها، وهي أن افتقاد العدل ما يجعل الأمواج متلاطمة، ترغي وتزبد، تستحضر مخزونات تراكمت من الاستهتار بكرامة الناس وقدرتهم على التخزين والرهان على قصر ذاكرتهم. هذه الأنظمة لا تنسى الإساءة لها من قبل الأفراد أو التيارات، وتظل تستدعي العلاقة غير الودّية بينها وبين معارضيها، ولكنها تفترض أن الآخرين سينسون، بل عليهم أن ينسوا، ولمصلحتهم أن ينسوا، وبالتالي فإنهم هنا لا يقدّرون ما يمكن أن تجلبه هذه الأمواج إن حان وقت مدّها.
فلقد تمت تجربة جميع الأسلحة، بدءاً من خراطيم المياه وصولاً إلى القصف الجوي، فلا نفعت إلا مؤقتاً، ربما شتتت الأمواج ففرحت بذلك، ولكن القوانين تقول أنها ستأتي حتماً ذات يوم، فهل سيعاد استخدام الأدوات ذاتها في عالم بات أكثر صرامة في الرقابة، وأكثر قدرة على القفز داخل حدود الأوطان؟

بالعدل وحده، يمكن كسر الأمواج وتوجيهها من الشكل الوحشي المدمّر إلى طرائق أخرى تقترب من طبيعة جمال البحر بدلاً من وحشيته وغموض ما يمكن أن يفعله. العدل، السلاح الذي لم يجرَّب بعد، سلاح يزرع الأرض طمأنينة بدل أن يحصد السيفُ الرؤوس اليانعة قبل أوان قطافها. يُيسط العدل فتنتفي كل الحجج الداخلية، وتسدّ الثغرات التي يلجُ منها متصيّدو الخارج. العدل، وهو الأقرب للتقوى، دربٌ طويل ولكنه أقل كلفة وأبقى للأنظمة. لا ينفع أن يُخرج العدلُ ليُرفع على الأسنة بينما موجات المدّ العملاقة على بعد أمتار، إنه استثمار بعيد الأمد، طويل النَّفس، منعدم المخاطر إن غطى بردائه الجميع.
 
جريدة البلاد البحرينية –   15 سبتمبر 2011