المنشور

الترفيه أم التسطيح؟


أذكر دراسة للباحث فيكتور سحاب عن البرامج الترفيهية على شبكات التلفاز، غايتها تفنيد القول الذي يقرن الترفيه بالتهريج والابتذال على نحو ما هو سائد في إعلامنا العربي اليوم، ويشير إلى أن المادة الترفيهية يمكن أن تكون في الآن ذاته مادة تربوية أو تثقيفية، إذا وُجد الإعلاميون القادرون على تحقيق هذه المعادلة الخلاقة، ولكن ترفيه التهريج والابتذال السائد الآن ليست غايته الترفيه عن الناس وتسليتهم، وإنما تسطيح عقولهم، واستنساخ نماذج هائلة من البشر لا تفكر إلا في السطحي والعابر، فاقدة لأدوات التحليل لمعرفة ما يدور حولها.
 
يقول الدارسون إنه حسب أكثر المعايير تساهلاً فإن غالبية الأمريكيين تعاني من جهل بالسياسة وبسير القضايا الوطنية، وقد أدى ذلك إلى قيام مناقشات حامية بين باحثي وسائل الاتصال حول أسباب هذا الجهل.
 
كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قد دعا مواطنيه إلى ضرورة الاهتمام بمتابعة الأحداث السياسية في العالم لمعرفة ما يدور فيه، والتعرف إلى الدور الذي تلعبه بلادهم في مجرى هذه الأحداث. والاعتقاد السائد لدى المحللين السياسيين والإعلاميين على حدٍ سواء هو أن العامل المباشر وراء تدني الثقافة السياسية للمواطنين، يرجع إلى اعتمادهم على التلفاز بوصفه وسيلة معرفة، وينظر هؤلاء المواطنون إلى المعلومات التي تقدمها النشرات الإخبارية المتلفزة كمعلومات تافهة نظراً لاعتمادها على الفذلكات الكلامية والوسائل البصرية.
 
مجموعة من الكتاب الأمريكيين أصدروا كتاباً عن السياسة الأمريكية في ما يوصف بـ”عصر التلفزيون”، أفردوا فيه فصلاً بكامله لتحليل التأثيرات المركبة للتلفزيون في المواطن الأمريكي، فلاحظوا أن بين أخطر عوامل التأثير مسألة ترتيب أولويات الأحداث، ذلك أن بوسع التلفاز أن يجعل من قضية دولية ثانوية موضوعاً أساسياً، وأن يهمش قضية جوهرية أو حتى يتجاهلها، بل يمكن لهذا الإعلام أن يجعل من قضية داخلية صرفة ليست ذات مساس بالشأن العام موضوعاً عاماً وحيوياً وأساسياً، وأن يشد انتباه الجمهور إلى هذه القضية، ويصرف نظره بالتالي، قاصداً ذلك أو غير قاصد، عن القضايا الدولية الأهم. كلما زاد المشاهد بعداً عن الشؤون العامة زاد تأثير التلفاز في عملية ترتيب أولويات الأحداث عنده.
 
وإلى مسألة ترتيب الأولويات هناك قضية تحديد المسؤولية عن القضايا السياسية، فطبيعة التغطية الحديثة التي يعتمدها التلفاز جديرة بأن تجعل المسؤول مبهماً أو غامضاً أو غير محدد، لذا يظل المسؤولون في حماية من غضب الجمهور أو لومه وانتقاده، على خلاف التغطية الموضوعية التي تسمح بتقصي جذور أي قضية تعرض وتقدم في سياق متكامل يردها إلى جذورها ويكشف عن عناصرها المختلفة.
 
يمكن أن يضاف إلى ذلك أيضاً أن كثافة المادة الترفيهية وبرامج التسلية، تسهم في التفريغ المقصود للاهتمامات العامة ليس على مستوى أمريكا وحدها أو الغرب فحسب، وإنما أيضاً على النطاقات العالمية، بما فيها نطاقنا العربي، ليس لأن التسلية بحد ذاتها غير محمودة، وإنما لأنها تقدم بكثافة تجعلها تغطي الفضاءات التي تسمح باهتمامات أخرى، مما يجعل من التسلية وسيلة وغاية في آن، وسيلة لصرف الأنظار عن اهتمامات أخرى سواها، وغاية لأن يقبع المتلقي في دائرة التسلية ذاتها ولا يبارحها.