المنشور

نحن والربيع العربي…!


لا ندري من أضفى مصطلح الربيع على التطوّرات العاصفة على امتداد البلاد العربية والذي استطاع أن يطمغ الحراكَ عامّة, قبل أن نسمع وصفاً آخر من رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنيّة هو الشتاء الإسلامي بعد عودته من زيارة الى طهران واجتماعه بمرشد الاخوان في مصر.
 
أيّا كان مسمّى هذه التطورات فإن زلزالا مدويّا هزّ الواقع العربي, وأطاح بحكّام وأطلق حمَم الغضب المتراكم من عقود القهر والفساد والنهب المنظم لخيرات الأوطان واحتكار السلطة, وارتهان السيادة الوطنية وبيعها في مقابل بخس.
 
سنحتاج الى زمن ليس بالقصير لدراسة وتحليل التطورات الراهنة, والتي هي في بداياتها بعد. ولم تخرج معظم التحليلات وردود الأفعال, حتى الآن, تجاه ما يحدث, عن إطار الانفعال والعاطفة والأمنيات, وإطلاق الأحكام المتسرّعة في وصف هذا الحدث واستقراء توجهاته وآفاقه.
 
الحراك السياسي والاجتماعي عملية في غاية التعقيد تسير في خط متعرّج وبوتائر متباينة من السرعة والحدّة والمدّ والجزر. وتتباين القوى المحرّكة والأدوار وتتغير التحالفات والخصومات فضلا عن الدّور الخارجي عربياً كان أم أجنبياّ.
 
على أن العنصر الاساسي في تقييم طبيعة التطورات ومحتواها هو مستوى التطوّر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في هذا البلد أو ذاك والخصائص التاريخيّة والأهميّة الجيوسياسيّة بالنسبة للقوى الاقليمية والدولية. فلا يمكن إسقاط الواقع التونسي أو المصري أو المغربي على الواقع البحريني أو أي مجتمع خليجي آخر واعتبار ما يحدث هنا امتداداً أو رديفاً للحدث المصري أو التونسيّ أو غيره.
 
وهذا يفرض الحذر في توصيف الحركة الاحتجاجية ومنطلقاتها وجذورها الاجتماعية وأسبابها وشروطها الموضوعية والذاتيّة في كل بلد بعيدا عن الحماس العاطفي ولَوي المفاهيم لإلباسها على واقع مغاير, بما يؤدي في المحصّلة الى نتائج كارثية على المجتمع بكل مكوناته تُؤذي حركة التغيير وكل مكتسباتها المتراكمة خلال عقود من التضحيات والعمل الوطني.
 
بدءاً ينبغي التمعّن فيما اتفق على تسميته بثورات الربيع العربي وما اذا كانت تلبّي جميعُها المفهوم العلمي للثورة من حيث الشروط الموضوعية والذاتية لقيامها وإذا ما أقامت حقاً انظمة جديدة على أنقاض القديمة. وهل أن قواها المحركّة تمثل حقّا قوى التغيير, بمعنى, هل حُسم الفرز بين الجديد والقديم, وهل تبيّنت معالم المجتمع الجديد أم أن الآتي ينبئ بارتداد المجتمع الى نُظم أشدّ تخلفاً وبؤساً ممّا أريد الاطاحة به؟ وماذا عن التغيير القسري المعبّد بالدم ورائحة البارود والنفط وفتاوى القتل؟
 
أسئلة عدّة تحتاج الى الإجابة, منها ما يرتبط بالعامل الداخلي وبعضها بالعامل الخارجي وانعكاساته على آفاق الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية في العالم العربي, ومدى التواطؤ بين العاملين لإحباط الأهداف الجذرية في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفي السياسة الخارجية بما يخدم الأهداف الاستراتيجية للأجنبي على حساب المصالح الوطنية لشعوب المنطقة..
 
إن واقع الانتفاضة (الثورة) المصرية التي قامت بعد تراكم سلسلة طويلة من النضالات, شاركت فيها الطبقة العاملة وفقراء الفلاحين والطلاب والشباب والمهنيّون والموظّفون وسكان الأحياء الشعبية, حيث شهدت السنوات الثلاث السابقة على الانتفاضة أكثر من 2500 تحرك احتجاجي, يؤكد أن أحداً من الشعب أو من القوى السياسية لم يتوقع أن تتطور الاحتجاجات الى هذا المدى, بل وفاجأتهم وأصبحوا يلهثون وراءها. لم ينضج العامل الذاتي للثورة لبلورة قوى سياسية موحّدة هيكليا وبرنامجاً تقود ثورة ضد نظام لتقيم نظاماً نقيضا له. وفي المقابل لم يصل النظام الى درجة العجز عن ادارة المجتمع ولم تنخره تناقضاته الداخلية فلم يسقط, وإن أجبر رأسُه وبعض رموزه على التنحّي. لقد بقي النظام بسياساته الاقتصادية والاجتماعية وارتباطاته السياسية الخارجية, ولم تمسّ البنية الاقتصادية ونظام الملكية ونتائج الخصخصة والاستيلاء على الملكية العامة والمال العام. واستطاع الاسلام السياسي بتواطؤ مع المجلس العسكري والقوى الخارجية وبسبب تدنّي مستوى الوعي عند شرائح واسعة, واستغلال العامل الديني وضعف القوى الوطنية والتقدمية وتشرذمها, أن يبسط هيمنته على السلطة التشريعية تليها السلطة التنفيذية ببرامج اقتصادية واجتماعية لا تختلف عن التوجهات التي قامت الانتفاضة ضدها. وكانت باكورة انجازاتهم مشاريع القوانين المُجحفة الخاصة بحق التظاهر والاضراب عن العمل والهجمة الاعلامية المكثفة على اعتصامات وإضرابات العمال والموظفين المطالبة بأجور عادلة وإبعاد الفاسدين عن إدارة المصانع والمؤسسات الإنتاجية وتحسين ظروف العمل, وهو ما يتكرر اليوم في تونس. بل ويتسع هذا العسف لينال المثقفين والفنانين والاعلاميين والحريات الشخصية والمدنية للمواطنين.
 
وفي الواقع فإنه قد تمّ اختزال صراعاً بهذا الحجم من الزخم والتضحيات في كونه صراعا على الانتخابات وتداول السلطة وكما يُظهره الاعلام على أنه واقع قد تكرّس, في حين أن للصراع بعداً اجتماعيا واقتصادياً أكثر عمقاً وأشدّ ضراوة يزداد اتساعاً مع استمرار تفاقم الأوضاع المعيشية والاحساس المرّ بأن الثورة قد سرقت.
 
إذن نحن أمام حالة لم تستقر ولم تنجَز ومن الصعب التكهّن بمخارجها, في المنظور القريب على الأقل, بالرغم من كل ما فينا من تفاؤل وأمل. هذه الحالة التي نجحت في إسقاط رئيس أكبر دولة عربية وقبله زين العابدين بن علي, خلقت نوعاً من الوعي الزائف بأن ما جرى في مصر وتونس والحراك في المغرب واليمن إنما هو ربيع عربي أو شتاء إسلامي ينبغي ملاقاته هنا بعد أن أزفَ زمن الثورات.
 
هناك مقولة هي أقرب إلى الحكمة بأنه لا يجوز اللعب بالثورة. فالثورة بخلاف الانقلابات العسكرية, ليست نزهة ولا قراراً يتخذ في غرف مغلقة, وهي لا تحتمل قراءة خاطئة للواقع الاجتماعي والسياسي, تخلطُ بين المطالب الاصلاحية الآنية المشروعة والطموحات البعيدة. هذه القراءة الخاطئة للثورة مدعاةٌ للتطرف, وافتقادٌ للمرونة السياسية وحرقٌ للمراحل ونوع من التضليل, وازدراءٌ للواقع لأنها تدّعي وحدة الأهداف بين المكونات السياسية للمجتمع في حين أن هناك تمايزاً جوهريا بين هذه المكوّنات في الشأن الاجتماعي والاقتصادي والحقوق المدنية وطبيعة الدولة والولاءات. ولا تغيّر من ذلك المطالب المشتركة بترسيخ الحياة الديمقراطية وتوسيع المشاركة الشعبية في القرارالسياسي, وفي الحركة المطلبية المتّصلة بحقوق وحياة المواطنين. وأخيراً فإن هكذا قراءة تضرّ بمجمل الحراك الوطني والوحدة الوطنية وتبرر لجهات مسؤولة عرقلة التوجهات الاصلاحية العامة في الدولة والمجتمع وعزل قوى الاصلاح لصالح التشدد وقوى الفساد.


الأيام 27 مارس 2012