المنشور

الاقتصادات العربية و”الربيع العربي”


تبرز التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية العارمة في عديد البلدان العربية مطلع العام الماضي، كتحديات محورية بالنسبة لآفاق مستقبل التحولات السياسية والاقتصادية التي أملتها تلك الثورات والاحتجاجات .
 
والحال أن الثورات وحركات الاحتجاج الواسعة النطاق التي شهدها عديد البلدان العربية بصور متفاوتة الحدة قد أدت إلى إلحاق أضرار جسيمة، متفاوتة المستوى أيضاً، في البنية الأساسية للبلدان العربية المعنية، بعضها دُمر بالكامل أو جزئياً جراء الصور الأكثر بشاعة للصراع، وبعضها تعرض للنهب والسرقة والأعطال، وبعضها أضحى مشلولاً ومتضرراً مالياً بسبب الاضطرابات والإضرابات والاعتصامات، فضلاً عن الأضرار التي لحقت بالموارد البشرية وبالرأسمال الاجتماعي نتيجة للتشطير الخطر الذي أصاب البنى المجتمعية الاثنية والقبلية والطائفية، وهي تصدعات تستدعي الحاجة لإعادة ترميمها في إطار عملية “إعادة بناء” شاملة ربما استغرقت عقداً تنموياً بأكمله .
 
الأمر يتعلق هنا بطائفة واسعة من المرافق والهيئات والمؤسسات الإنتاجية والإدارية التي أصابها الشلل التام أو الجزئي نتيجة لجسامة الأحداث وتداعياتها، فضلاً عن بعض أبرز المؤسسات الحيوية مثل الجهاز القضائي والمؤسسات التعليمية التي وإن لم يصبها ما أصاب المرافق والمؤسسات الإنتاجية والتسييرية الأخرى من أضرار، إلا أنها بقيت تعاني حالة “ضياع” بين استمرار انشدادها لعقلية التسيير الإدارية والإنتاجية للعهد البائد وبين موجبات إصلاحها لمواكبة استحقاق التحول الاقتصادي الجديد .
 
وإلى جانب هذه الأعطال الناتجة عن حالة الاضطراب والتفلت الاقتصادي، هناك المشكلات الأخرى العالقة التي ظلت تراوح مكانها بسبب مزدوجي الاستبداد والفساد، ومنها النمو البطيء، والبطالة، واختلال الموازين التجارية بسبب عدم مواكبة قطاعات التصدير للطلب المتنامي على الواردات، وتراجع حجم الاستثمار لاسيما الاستثمار المباشر، وإصابة القطاع السياحي بحالة ركود قسرية أملتها ظروف الاضطرابات، خصوصاً بالنسبة إلى دول مثل مصر التي تشكل مساهمة القطاع السياحي فيها نسبة 4% من إجمالي الناتج المحلي، وتونس التي يشكل فيها نسبة 6%، وهو قطاع معروف باعتماده على كثافة العمالة، كما أنه يعد مصدراً أساسياً لإيرادات الدول من العملة الصعبة اللازمة لمقابلة جانب المطلوبات في ميزان المدفوعات .
 
وبسبب عدم معرفة طول وأجل انتهاء المرحلة الانتقالية بما يهيئ لعودة الاستقرار للاقتصاد، فإن المؤشرات الأولية المتوافرة تشير إلى أن البلدان العربية غير المنتجة للنفط مثل مصر وتونس والمغرب والأردن واليمن وسوريا، ستظل تعاني في المدى القصير ضعف الأداء الاقتصادي العام المنعكس بدوره سلباً على المستويات المعيشية لعموم السكان لاسيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة .
 
في تونس على سبيل المثال، انخفض النمو في عام 2011 من النسبة المتوقعة وقدرها 3% إلى صفر في المئة حسب تقديرات صندوق النقد الدولي . بل إن تقديرات الحكومة التونسية تذهب إلى أن الاقتصاد التونسي انكمش بنسبة 8 .1%، وهو ما يفسر هروب ما نسبته 25% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما يشمل 120 شركة أجنبية ترتب عليها خسارة 000 .40 وظيفة . وفي مصر تراجع النمو في العام الماضي من 5% إلى 1%، وتراجع حجم الاستثمار الأجنبي من 4 .6 مليار دولار إلى نصف مليار دولار فقط، فيما انحسر احتياطي النقد الأجنبي من 36 مليار دولار إلى 15 مليار فقط . أما في ليبيا فقد بلغت نسبة الخسارة في النمو أكثر من 50% بعد ستة أشهر من الحرب الأهلية وتوقف كامل إنتاج ليبيا النفطي، بخسائر قدرت بنحو 15 مليار دولار، ويأمل حكام ليبيا الجدد في استعادة 170 مليار دولار جمدها الغرب في مصارفه إبان حرب إسقاط نظام القذافي، لعلها تساعد في إعادة تنشيط دورة النمو الإنتاجية وتعوض الخسائر ومنها خسارة 8 .3 مليار دولار استثمارات أجنبية مباشرة . ولا تخدم الأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستتبة بعد، الحكومات على المدى القصير في تأمين مصادر التمويل المطلوبة لإعادة تحفيز محركات النمو، فأسواق الأوراق المالية في الدول المعنية مازالت تحت تأثير “خضة” التحولات المضطربة، والتمويل الدولي سيكون مُكلفاً نتيجة هبوط تصنيفها المالي الدولي، فلابد، والحال هذه، من مقاومة إغراء التمويل الدولي لما له من عواقب اقتصادية واجتماعية غير محمودة بحسبان قياس العائد والتكاليف، والاعتماد بدلاً من ذلك على مصادر التمويل المحلية المتاحة، ومواكبة ذلك باتخاذ إجراءات سريعة تقابل تحديات المدى القصير، مثل تسهيل التمكين من الوصول إلى المعلومات وإزالة كل معوقات تأسيس الشركات ومشروعات المبادرين بصورة سريعة، وإنهاء الحالة الاحتكارية للاستحواذ على الأصول الثابتة والمشروعات والفرص الاستثمارية الواعدة وعلى المعلومات الخاصة بها من قبل حفنة المتنفذين والعوائل المنتخبة، وإنشاء برامج عملية لمساعدة العاطلين، يدعمها صندوق وطني للتوظيف . فلا ننس أن هبات “الربيع العربي” الشعبية قد اندلعت على خلفية تفاقم مشكلات الفقر والتهميش وغياب العدالة وتفشي البطالة في أوساط الشباب . ومن التوقعات بأن المنطقة العربية بحاجة لإيجاد مئة مليون وظيفة خلال السنوات العشر المقبلة، وفي ظل الوضع الديموغرافي الضاغط، فإن التحديات التي تواجه تشكيلات الحكم الجديدة أبلغ أثراً في هياكلها الاقتصادية وبنيتها الاجتماعية .
 
وعلى هذا الأساس، وإزاء الهشاشة التي أظهرتها الاقتصادات العربية غير النفطية في مقاربتها للأحداث وتداعياتها، فإن انكشافها هذا قد أظهر بالمقابل إلى أي حد يبدو العالم العربي، كإقليم اقتصادي متصل جغرافياً، مجزأ، حيث لا تشكل تجارته البينية سوى 10% من إجمالي تجارته الخارجية، كما أن أسواقه معزولة عن بعضها بعضاً . والغريب أن هذه الحالة الجامدة للروابط الاقتصادية الحقيقية، مستمرة منذ ستينات القرن الماضي حين أعلن عن هدف إنشاء السوق العربية المشتركة .
 
وعلى ذلك، فإنه وبرغم أهمية المقاربات الوطنية للتعاطي مع المشكل الاقتصادي والاجتماعي داخل كل بلد عربي عانى (بصور مختلفة ومتفاوتة من تداعيات ‘الربيع العربي’)، فإن هذا ليس بديلاً لربط ودمج الأسواق العربية والاستفادة من اقتصادات الحجم ومن تكامل الطاقات البشرية وقواها العاملة مع رؤوس الأموال الفائضة، وهما العنصران الأساسيان في عوامل الإنتاج .

27 مارس 2012