المنشور

الفرق بين جورج كلوني وجونتر جراس


تسلطت الأضواء مؤخرا على جورج كلوني الممثل والمخرج الهوليوودي المعروف والحائز على جائزة الأوسكار، ليس كنجم هوليوودي ساطع هذه المرة وانما كناشط سياسي مدافع عن حقوق الانسان في المناطق المنكوبة انسانيا بفعل الحروب والنزاعات العرقية والفقر والجوع كما يقدم نفسه. حيث لمع نجمه مؤخرا في وسائط الاعلام الامريكية والبريطانية الكبرى (شبكة ان بي سي، واشنطن بوست، ذي غارديان وغيرها) كداعية لنصرة قضية سكان بلاد النوبة في السودان، بعد أن كان وظف نجوميته للعب دور المساند لقضية انفصال جنوب السودان ثم التحشيد بعد ذلك لقضية دارفور.

واللافت ان الممثل الهوليوودي بدا وكأنه فرَّغ نفسه تماما وكرس جل وقته وامكاناته المالية للعمل على تسليط أكبر قدر ممكن من الضوء وحشد أوسع تأييد ممكن للاقاليم السودانية الناقمة على تهميشها سياسيا وتنمويا من جانب الحكومة المركزية في الخرطوم. فلقد صور وانتج جورج كلوني فيلما عن ما أسماه بالهجمات المروعة للحكومة السودانية على سكان جبال النوبة، وتم عرض الفيلم بتنسيق وبتحريض من السناتور جون كيري أمام لجنة العلاقات لخارجية في الكونجرس، كما قام بمقابلة الرئيس الامريكي باراك أوباما في البيت الابيض في 14 آذار/مارس الماضي للتعبير عن قلقه على شعب السودان. كما أسهم كلوني في تأسيس “مشروع القمر الصناعي الحارس” الذي سيخصص لرصد الأعمال العسكرية للحكومة السودانية!

فهل يكون جورج كلوني يحقق بهذه الأعمال والمواقف أمنيته بأن يكون على “الجانب الصحيح من التاريخ”؟
ربما..فالنظام الحاكم في الخرطوم لم يترك أي مجال لا للمعارضة السودانية ولا للنخب السودانية المختلفة، لايجاد ما يمكن أن تدافعان به عن فساده واستبداده. وهو، كعادة أنظمتنا الاستبدادية “التليدة” يأخذ البلاد الى المآزق ثم يصرخ باسم الدين والعصبيات الجمعية “انقذوني من شرور الأغيار”!

ولكن الفرضية الراجحة لأن يكون جورج كلوني يحقق امنيته بالوقوف على “الجانب الصحيح من التاريخ”، سرعان ما تعتريها الشكوك ما أن يتفحص المرء طبيعة اللوبي الذي ينسق معه تحركاته في الشأن السوداني والذي يضم من الشخوص المعروفة  السنتاتور جون كيري صاحب الصولات والجولات في السودان على وقع الرائحة النفاذة لنفط الجنوب.

وما دام لدى جورج كلوني كل هذا المخزون من الحماس لقضايا الحرية والعدل والمساواة والنضال ضد الاستبداد والاضهاد، فقد كان ومازال أمامه الكثير من هذه القضايا والملفات العالقة منذ أزمان بعيدة، تأتي في مقدمتها المأساة الوطنية والسياسية للشعب العربي الفلسطيني الذي تمثل قضيته عنوان الظلم الصارخ والساطع، وذلك بدلا من أن يزج بنفسه في أتون شبهات رأس المال النفطي ورأس المال المالي الطامع، بتوحش فاضح، في الثروات الهيدروكربونية السودانية.

هل كان عليه أن يكون مناضلا شهما ونبيلا كما فعل غونتر غراس مثلا؟

نعم مثل غراس وغيره من كل الأحرار عبر العالم بغض النظر عن أجناسهم ومنابتهم الاجتماعية وأطيافهم الثقافية والفكرية.. الذين يرفضون مقايضة ضمائرهم وانسانيتهم مهما كانت المغريات ومهما كانت تلوينات العصي وتلويحاتها. ولكن شتان، على ما يبدو، ما بين الثرى والثرية.

غونتر غراس الكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1999 عن دوره في اثراء الأدب العالمي وخصوصا ثلاثيته الشهيرة “ثلاثية دينتسيغ”، أصدر مؤخرا (قبل بضعة أيام) قصيدة نثرية بعنوان “ما ينبغي أن يقال” قال فيها “ان اسرائيل تهدد السلام العالمي وانها يمكن أن تمسح الشعب الايراني بضربة نووية واحدة”، مشيرا الى “انه سئم مما سماه نفاق الغرب بخصوص اسرائيل وان أهوال النازية ليست ذريعة للصمت”. كما انتقد بلاده ألمانيا على بيعها غواصات متطورة لاسرائيل يمكن أن تحمل أسلحة نووية.

ثارت ثائرة وعنجهية اسرائيل فظهر رئيس وزرائها بأوداجه المتعجرفة ليهاجم الأديب الألماني بعد دقائق من نشره للقصيدة، ناعتا اياه بعدو السامية والنازي وبفقدان القدرة الأخلاقية على تقدير الامور (أي معتوه).

 غونتر غراس لم يجزع ولم يتراجع ولم يعتذر عما ذكره في قصيدته، كما يفعل عادة المثقفون والمفكرون والفنانون الغربيون حين تهديدهم بالانتقام من قبل اسرائيل وحماتها، وانما على العكس تماما، فقد تمسك بموقفه ودافع عن رأيه في المقابلات الصحفية التي أُجريت معه بعد نشر القصيدة. فقد أراد، بخروجه عن صمته، كسر حاجز الخوف والتحول الى قدوة للآخرين لكي يحذوا حذوه في هدم التابو الذي انشأته اسرائيل في الغرب منذ انشائها عام 1948.

غونتر غراس الذي يعد أهم الأدباء الالمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لن ينجو بطبيعة الحال من ارهاب الدولة الصهيونية ورعاتها، ولكنه، بتجليه الانساني البديع، يضيف لنا نموذجا آخر متألقا للضمير الانساني العالمي الحي، غير ذاك الضمير المخاتل ذي المآرب الذي يقدمه لنا الممثل الامريكي الشهير جورج كلوني.
نحن اذا أمام ثنائية متضادة للمثقف (بالمفهوم الواسع للثقافة) في أيامنا الراهنة التي تشهد جولة تسخين واسطخاب جديدة للصراع..بين نموذج ألق الضمير الانساني وبين نموذج المثقف المضارب “بسلعة ثقافته”. هكذا كان الحال دائما ابان دورات الفرز والاستقطاب وهكذا سيكون.
 

27 ابريل 2012