المنشور

عينات لبعض سمات “الدولة الآيلة إلى الفشل”


 
ما بين تدشين الرئيس المصري الجديد محمد مرسي في كلمة تهنئة وجهها للمصريين بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، لحملة قومية على مستوى البلاد من أجل وطن نظيف ودعوته الجميع للمشاركة فيها يومي الجمعة والسبت 20 و 21 يوليو 2012، وما بين وصف النائب في البرلمان التونسي عن الكتلة الديمقراطية محمود البارودي في جلسلة المجلس التأسيسي التونسي التي عُقدت عشية شهر رمضان المبارك للائتلاف الحاكم الذي يضم حزب النهضة (اخوان مسلمين) بزعامة راشد الغنوشي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المنصف المرزوقي وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر، تعليقا على عشوائية وتخبط رئيس الجمهورية في قراراته وآخرها القرار الجمهوري بتعيين الشاذلي العياري محافظا للبنك المركزي قبل اقالة المحافظ السابق للبنك مصطفى كمال النابلي، بأنه يدير “جمهورية موز”.. وما بين تهريب النفط العراقي من قبل حكومة اقليم كردستان الى خارج البلاد وخاصة الى تركيا وايران بأسعار بخسة – ما بين كل هذه “العيِّنات” من “اللقطات” المتفرقة والمختارة من المشهد العربي العام، وتحديدا من البلدان التي شهدت تغييرات “بمساعدة” الغرب، يمكن للمرء المتفحص أن يلتقط خيطا استدلاليا رفيعا سوف يقوده الى ذات النتيجة التي آلت اليها الحال العربية برمزية أمثلتها الثلاثة سالفة الذكر.
 
ويمكننا، قبل الاسترسال، أن نضيف هنا عيِّنة رابعة نوجزها في الثأرية والكيدية الحاقدة التي أظهرها الاخوان المسلمون في مصر تجاه ثورة يوليو في ذكراها الستين بعد أن قيضت لهم الظروف التاريخية الصعود – بالملابسات المعروفة لذلكم الصعود – الى سدة الرئاسة في مصر المحروسة والتي وصلت في حضيضها لحد التعريض بزعيم الثورة وقائدها الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر!
 
تعليق محمود البارودي الساخر في البرلمان التونسي، استدعى، كما هو متوقع من المستقر المعتاد في حميّتنا وفزعتنا “للكرامة المهدورة”، ردود فعل غاضبة وصاخبة من جانب الائتلاف الحاكم وخصوصا من جانب حركة النهضة الاسلامية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، حيث تعالى الضجيج والصياح والطرق على المناضد في مشهد أشبه بحلبة صراع الديكة وفقا لتوصيف وكالات الانباء التي تناقلت الخبر.
 
وفي الاسترسال، دعونا نتوقف قليلا عند “اللقطة الرابعة” المتصلة بطبيعة الحال بـ”لقطة” العينة الأولى. طبعا شيء جيد أن يبدأ الرئيس المصري الجديد الدكتور محمد مرسي رزنامة عمله الرئاسي بتجريد حملة وطنية للنظافة، فهذا دليل عافية فكرية حضارية يتصل فيها القول بالممارسة العملية. ونتمنى بطبيعة الحال أن لا تكون هذه اللفتة محض نزوة رئاسية طارئة وانما هي نوع من النسج على الأقل على منوال التجربة الناجحة التي خلّفها وراءه محافظ الاسكندرية السابق محمد عبدالسلام المحجوب خلال الفترة من 1997 الى 2006 والتي قام خلالها بتحديث المخطط العام للمدينة واستراتيجية التنمية العمرانية الشاملة للمحافظة حتى عام 2017، والتي نفّذ بموجبها ورشة اعادة بناء وصيانة عدد كبير من منشآت ومرافق المدينة العامة ومنها كورنيش الاسكندرية الشهير، حتى لقّبه أهالي اسكندرية بمحبوب الاسكندرية..أو حتى الخديوي اسماعيل الذي أنشأ الشوارع والأحياء المصرية وأمدها بالانارة وبشبكة الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار، وأنشأ جهة خاصة للاعتناء بنتظيم شوارع العاصمة والقيام بأعمال النظافة والصيانة والصحة. فلقد كانت النظافة ابان الملكية وحتى في العهد الناصري عنوانا للذائقة الثقافية الرفيعة لأن الثقافة كانت لها مكانة رفيعة في المجتمع المصري آنذاك، وذلك برسم المشاهد التي سجلتها وحفظتها عدسة الأفلام المصرية القديمة (أفلام الأسود والأبيض) والتي لازالت تنهض الى اليوم شاهدا على مناقبيات تلك الأيام.
 
ومع ذلك فان نظافة القلوب وحفظ العهود يأتيان، على ما نفترض، قبل نظافة الأمكنة التي يشغلها ويستخدمها الناس. ذلك ان لفتة (gesture) النظافة التي أومأ بها سيادة الرئيس الدكتور محمد مرسي لا تستقيم مع الواقعة المتصلة بـ”لفتة” العينة الرابعة. فهنا يختفي الموقف الحضاري الذي شاهدناه في “اللقطة” الأولى، ويحل محله الكيد والثأر وكل ما نستبطنه في لاوعينا من موروث ماضوي سحيق.
 
نأتي الآن لقضية تهريب النفط العراقي من داخل حدود الدولة العراقية السيادية على يد حكومتها المحلية ، أي حكومة اقليم كردستان العراق ذات الخصوصية في “التوليفة” السياسية، الدستورية، التي نشأت بعد الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003. هنا نحن أيضا أمام مؤشر آخر على فشل الدولة العراقية في تقديم نفسها للعالم الذي تنتمي رسميا الى عضوية اسرته الدولية ممثلة في منظمة الأمم المتحدة، بأنها دولة تمارس كامل سيادتها على حدودها وعلى ثرواتها الوطنية وعلى مصادر تراكم تلك الثروات، واثباتها، بالمقابل، بأنها دولة “حارة كل من ايدو الو”، بدليل ان لب الخلاف بين الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان العراق هو النزعة الانفصالية لدى الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني. فهو وان قبل أن يكون اقليم كردستان جزءا لا يتجزأ من العراق في الدستور العراقي، الا انه راح يمارس دور رئيس الدولة المستقلة ذات السيادة على ثرواتها وحدودها، فتفاوض مع شركات النفط والغاز العالمية وتعاقد مع بعضها ومنها شركة اكسون موبيل الامريكية. وقد وجهت الحكومة المركزية في بغداد أكثر من رسالة تحذير للشركة الامريكية (أكبر شركات النفط العالمية) بعدم تجاوز سيادة وصلاحيات الحكومة العراقية في تعاقداتها، وسافر لهذا الغرض رئيس الحكومة نوري المالكي الى واشنطن وسمع من الرئيس أوباما تطمينات بهذا الشأن، الا أن يد اكسون موبيل بدت أطول من يد الرئيس أوباما على لوبيات صناعة القرار في واشنطن.
 
أن تقوم المافيات والعصابات المنظمة، كما هو حادث في نيجيريا على سبيل المثال، بسرقة النفط الخام من شبكة الأنابيب الحكومية وتهريبه، سواء بصورته الأولية أو المكررة (يقوم أولئك القراصنة النفطيون بتكرير الخام النيجيري المسروق في معامل بدائية سرية وتحويله الى منتجات نفطية لاسيما الديزل والكيروسين أي المنتجات ذات القيمة المضافة العالية)، فهذا من بديهيات عمل المافيات والعصابات،  أما أن تقوم احدى الحكومات المحلية المؤتمنة، بالنيابة عن الحكومة الفدرالية (المركزية) على ادارة القطاع أو الاقليم أو البلدة، بسرقة وتهريب الثروات والممتلكات المسئولة عن حمايتها وادارتها، فهي ممارسة ليست أقل من أن توضع في مصاف الممارسات المشابهة التي سقنا المثال النيجيري كأحد نماذجها المتضادة تماما مع الدولة ككيان حضاري متماسك.
 
منتهى القول فيما تقدم، هو أن هنالك في أغلب بلداننا العربية، وليس فقط في بلدان العيّنة سالفة الذكر، أكثر من ملمح من ملامح الفشل أو السير على طريق الفشل، الذي يطبع الدولة الموسومة بالسيادة شكلا وغير المُحقّقة لها مضمونا.