ترى ايزابيل الليندي، أن
الكتابة تشبه عملية التدريب لكي يصبح المرء رياضياً. هنالك الكثير من
التدريب والعمل اللذين لا يراهما أحد لكي يكون الرياضي قادراً على
المنافسة. الكاتب بحاجة لأن يكتب كل يوم، تماماً كما يحتاج الرياضي
للتدريب. الكثير من هذه الكتابة لن يستخدم أبداً، ولكن من المهم القيام به.
لذا فإنها تنصح طلابها الشباب بأن عليهم كتابة صفحة واحدة جيدة كل
الكتابة تشبه عملية التدريب لكي يصبح المرء رياضياً. هنالك الكثير من
التدريب والعمل اللذين لا يراهما أحد لكي يكون الرياضي قادراً على
المنافسة. الكاتب بحاجة لأن يكتب كل يوم، تماماً كما يحتاج الرياضي
للتدريب. الكثير من هذه الكتابة لن يستخدم أبداً، ولكن من المهم القيام به.
لذا فإنها تنصح طلابها الشباب بأن عليهم كتابة صفحة واحدة جيدة كل
يوم، وفي نهاية العام سيكون لديهم على الأقل 360 صفحة جيدة، وهذا يشكل كتاباً.
ينبغي أن اعترف بأن هذه النصيحة استقرت في قاع ذهني، وكثيراً ما فكرتُ بأن
أعمل بها، وهي أن أكتب في كل يوم صفحة جيدة، أو أحسبها أنا جيدة، ليكون
عندي في نهاية السنة ما يُشكل كتاباً، ولعل في تسجيل اليوميات ما يحقق
الهدف، لكن ينقصني الجلد والمثابرة لكي أفعل ذلك، هذا إذا ضربتُ صفحاً عن
مشاغلي والتزاماتي الحياتية، فالليندي تمضي كل يوم بين عشر إلى اثنتي عشرة
ساعة وحدها في غرفة للكتابة، لا تتحدثْ مع أحد ولا تتلقى مكالمات هاتفية.
ومن خلال هذا التدريب اليومي الطويل والمضني اكتشفتْ الكثير عن نفسها وعن
الحياة. إنها تقوم بتسجيل ملاحظات طوال الوقت، وتحتفظ بدفتر في حقيبتها،
وحينما ترى أو تسمع شيئاً مثيراً تقوم بتسجيل ملاحظته، تأخذ مقتطفات من
الجرائد ومن أخبار التلفزيون، وتكتب قصصاً يرويها لها الناس.
أعمل بها، وهي أن أكتب في كل يوم صفحة جيدة، أو أحسبها أنا جيدة، ليكون
عندي في نهاية السنة ما يُشكل كتاباً، ولعل في تسجيل اليوميات ما يحقق
الهدف، لكن ينقصني الجلد والمثابرة لكي أفعل ذلك، هذا إذا ضربتُ صفحاً عن
مشاغلي والتزاماتي الحياتية، فالليندي تمضي كل يوم بين عشر إلى اثنتي عشرة
ساعة وحدها في غرفة للكتابة، لا تتحدثْ مع أحد ولا تتلقى مكالمات هاتفية.
ومن خلال هذا التدريب اليومي الطويل والمضني اكتشفتْ الكثير عن نفسها وعن
الحياة. إنها تقوم بتسجيل ملاحظات طوال الوقت، وتحتفظ بدفتر في حقيبتها،
وحينما ترى أو تسمع شيئاً مثيراً تقوم بتسجيل ملاحظته، تأخذ مقتطفات من
الجرائد ومن أخبار التلفزيون، وتكتب قصصاً يرويها لها الناس.
وحين
تشرع في كتابة كتابٍ ما، تحضر كل تلك الملاحظات لأنها تُلهمها، ومن دون
تخطيط مسبق تبدأ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مُتبعة في ذلك إحساسها.
عندما تقوم بتطوير شخصية ما تبحث عادةً عن شخص يمكن أن يكون نموذجاً لها،
وإذا كان هذا الشخص حاضراً في ذهنها، يصبح من السهل بالنسبة لها أن تخلق
شخصية مقنعة. الناس، برأيها، مُركبون ومُعقدون وهم نادراً ما يظهرون كل
الجوانب المتعلقة بشخصياتهم، وعلى الشخصيات الروائية أن تكون كذلك أيضاً.
تشرع في كتابة كتابٍ ما، تحضر كل تلك الملاحظات لأنها تُلهمها، ومن دون
تخطيط مسبق تبدأ الكتابة مباشرة على الكمبيوتر مُتبعة في ذلك إحساسها.
عندما تقوم بتطوير شخصية ما تبحث عادةً عن شخص يمكن أن يكون نموذجاً لها،
وإذا كان هذا الشخص حاضراً في ذهنها، يصبح من السهل بالنسبة لها أن تخلق
شخصية مقنعة. الناس، برأيها، مُركبون ومُعقدون وهم نادراً ما يظهرون كل
الجوانب المتعلقة بشخصياتهم، وعلى الشخصيات الروائية أن تكون كذلك أيضاً.
تقول إنه يراودها شعور أنها لا تخترع أي شيء، وأنها بطريقة ما تكتشف
أشياء موجودة هناك، ووظيفتها هي العثور عليها وإحضارها إلى الورقة، لأن
الإنسان حين يمضي ساعات عديدة متواصلة، كالساعات التي تمضيها هي، في الصمت
وحيداً، يصبح بوسعه أن يرى العالم. إنها تتخيل أن الناس الذين يتأملون
لساعات طويلة أو الذين يبقون وحيدين في مكان ما سينتهي بهم الأمر لسماع
أصوات وإبصار رؤى لأن الوحدة والصمت يخلقان الأرضية لذلك.
أشياء موجودة هناك، ووظيفتها هي العثور عليها وإحضارها إلى الورقة، لأن
الإنسان حين يمضي ساعات عديدة متواصلة، كالساعات التي تمضيها هي، في الصمت
وحيداً، يصبح بوسعه أن يرى العالم. إنها تتخيل أن الناس الذين يتأملون
لساعات طويلة أو الذين يبقون وحيدين في مكان ما سينتهي بهم الأمر لسماع
أصوات وإبصار رؤى لأن الوحدة والصمت يخلقان الأرضية لذلك.
في الثامن
من يناير/ كانون الثاني عام 1981، وكانت في الأربعين من عمرها بالضبط، تلقت
مكالمة هاتفية تخبرها أن جدها الحبيب يحتضر، وبدأت في كتابة رسالة إليه
أصبحت فيما بعد روايتها الأولى: “بيت الأرواح”. منذ ذلك العام داومت على
العادة نفسها. في الثامن من يناير من كل سنة، الذي بات يوماً مقدساً لها
تحضر إلى مكتبها في الصباح الباكر وحيدة، توقد بعض الشموع للأرواح وعرائس
الإلهام تتأمل بعض الوقت ثم تشرع في كتابة الجملة الأولى لروايتها الجديدة
وهي في حالة من الغشية. إنها تتعاطى مع المشاعر، لذا فإنها معنية بتلك
الأشياء المهمة في حياة المرء، والتي لا تحدث إلا في الغرف السرية للقلب.
من يناير/ كانون الثاني عام 1981، وكانت في الأربعين من عمرها بالضبط، تلقت
مكالمة هاتفية تخبرها أن جدها الحبيب يحتضر، وبدأت في كتابة رسالة إليه
أصبحت فيما بعد روايتها الأولى: “بيت الأرواح”. منذ ذلك العام داومت على
العادة نفسها. في الثامن من يناير من كل سنة، الذي بات يوماً مقدساً لها
تحضر إلى مكتبها في الصباح الباكر وحيدة، توقد بعض الشموع للأرواح وعرائس
الإلهام تتأمل بعض الوقت ثم تشرع في كتابة الجملة الأولى لروايتها الجديدة
وهي في حالة من الغشية. إنها تتعاطى مع المشاعر، لذا فإنها معنية بتلك
الأشياء المهمة في حياة المرء، والتي لا تحدث إلا في الغرف السرية للقلب.
الغرف السرية للقلب!
كم بدا التعبير جذاباً بالنسبة لي، وهو، في صورةٍ من الصور، ذكرني بحديثٍ
مطول لجان بول سارتر عن سيرته الذاتية، فيه يلفت النظر إلى أن الكتابة تولد
بالتأكيد من الخفاء والسرية، وإذا حاول الكاتب إخفاء هذه السرية، فإن
كتابته ستكون برأي سارتر كاذبة، أما إذا حاول إعطاء لمحة عن هذه السرية في
محاولة لعرضها، فإن هذه الحالة تقترب من الشفافية. وما لم يقلهُ سارتر،
ربما لأنه فرنسي وعاش في فرنسا حيث الحريات واسعة، إن شفافية الكتابة حيال
القضايا العامة لا تتوقف على موقف الكاتب وحده، لأن موانع وكوابح الكتابة
الشفافة هي في الأغلب معطى موضوعي.
مطول لجان بول سارتر عن سيرته الذاتية، فيه يلفت النظر إلى أن الكتابة تولد
بالتأكيد من الخفاء والسرية، وإذا حاول الكاتب إخفاء هذه السرية، فإن
كتابته ستكون برأي سارتر كاذبة، أما إذا حاول إعطاء لمحة عن هذه السرية في
محاولة لعرضها، فإن هذه الحالة تقترب من الشفافية. وما لم يقلهُ سارتر،
ربما لأنه فرنسي وعاش في فرنسا حيث الحريات واسعة، إن شفافية الكتابة حيال
القضايا العامة لا تتوقف على موقف الكاتب وحده، لأن موانع وكوابح الكتابة
الشفافة هي في الأغلب معطى موضوعي.
لا أعرف لماذا يمجد الناس العقل
ويزدرون نداء القلب.عندما يجري الحديث عن الذكاء فإن أول ما يتبادر إلى
تفكيرنا هو العقل وليس القلب. للقلب بالنسبة لمن يدعون بالعقلاء مكانة
دُنيا، أو لنقل إنها دون مكانة العقل، وحين تجري المفاضلة بين العقل
والقلب، فإن الانحياز، في الوعي السائد، هو للعقل. إذا أردنا أن نزجي
النصيحة لأحد، فإننا لا نقول له حكّم قلبك، وإنما نقول له حصرا: حكّم عقلك.
ويزدرون نداء القلب.عندما يجري الحديث عن الذكاء فإن أول ما يتبادر إلى
تفكيرنا هو العقل وليس القلب. للقلب بالنسبة لمن يدعون بالعقلاء مكانة
دُنيا، أو لنقل إنها دون مكانة العقل، وحين تجري المفاضلة بين العقل
والقلب، فإن الانحياز، في الوعي السائد، هو للعقل. إذا أردنا أن نزجي
النصيحة لأحد، فإننا لا نقول له حكّم قلبك، وإنما نقول له حصرا: حكّم عقلك.
من سوء الحظ إن الحضارة المعاصرة تذهب سريعاً، أسرع ما نتصور، إلى الأرقام
والحاسبات الآلية والتنظيم المفرط الذي يطال حتى العواطف. شيئاً فشيئاً
يتجرد الإنسان من حيزه الروحي لمصلحة ما يدعى بالروح العملية. وتبشر مدارس
فلسفية عديدة بانعطاف جديد في حياة البشر، على أساسها تتوارى فضاءات الحلم
والعاطفة، التي بات ينظر إليها كما لو كانت مرحلة غابرة تمثل طفولة البشرية
وسذاجتها، رغم أن العواطف والانفعالات تقرر في حالات كثيرة مجرى المصائر
الفردية والعامة أكثر مما يفعل الذهن، من دون أدنى تقليل من أهميته.
والحاسبات الآلية والتنظيم المفرط الذي يطال حتى العواطف. شيئاً فشيئاً
يتجرد الإنسان من حيزه الروحي لمصلحة ما يدعى بالروح العملية. وتبشر مدارس
فلسفية عديدة بانعطاف جديد في حياة البشر، على أساسها تتوارى فضاءات الحلم
والعاطفة، التي بات ينظر إليها كما لو كانت مرحلة غابرة تمثل طفولة البشرية
وسذاجتها، رغم أن العواطف والانفعالات تقرر في حالات كثيرة مجرى المصائر
الفردية والعامة أكثر مما يفعل الذهن، من دون أدنى تقليل من أهميته.
إن
القلب، من حيث هو مستودع العواطف والمشاعر وميدان تمزقات الإنسان وأحلامه
وأوهامه، له بصيرة لا تقل أهمية عن بصيرة العقل. يمكن للقلب أن يكون دليلاً
للمرء في مواجهة عالمه الخارجي وفي علاقاته مع محيطه من البشر. ولصلته
بالمشاعر فإن القلب هو الأكثر تعبيراً عن رهافة الروح الإنسانية وعذوبتها
وشفافيتها، فيما العقل قد يقود لخراب. وحتى في الحالات التي يبدو فيها
الإنسان قاسياً فإن أول ما يرق فيه هو القلب.
القلب، من حيث هو مستودع العواطف والمشاعر وميدان تمزقات الإنسان وأحلامه
وأوهامه، له بصيرة لا تقل أهمية عن بصيرة العقل. يمكن للقلب أن يكون دليلاً
للمرء في مواجهة عالمه الخارجي وفي علاقاته مع محيطه من البشر. ولصلته
بالمشاعر فإن القلب هو الأكثر تعبيراً عن رهافة الروح الإنسانية وعذوبتها
وشفافيتها، فيما العقل قد يقود لخراب. وحتى في الحالات التي يبدو فيها
الإنسان قاسياً فإن أول ما يرق فيه هو القلب.
باحثة أجنبية تدعى
“ايزابيل فيليوزات” أصدرت كتاباً حمل عنوان “ذكاء القلب”، فيه تقدم خلاصة
تجاربها ومعايناتها بصفتها أخصائية نفسانية، حيث تؤكد أن للغة العواطف
قواعدها، وتطالب بضرورة إعطاء دراسة العواطف والانفعالات مكانتها التي تليق
بها في مناهج التعليم، والكف عن الاستخفاف بالقلب بوصفه مصدرا للمعرفة،
وأساس هذه الدعوة هو أهمية السعي لتهذيب انفعالات الإنسان كي يصل إلى مرحلة
“النضج العاطفي” التي تجعله أكثر مقدرة على فهم عالمه الخاص وعوالم
الآخرين. احد علماء النفس يقول، فيما يُشبه الخلاصة، “على قلوبنا أن تعرف
عالم العقل وعلى عقلنا أن يتخذ قلباً واعياً كدليل له”.
“ايزابيل فيليوزات” أصدرت كتاباً حمل عنوان “ذكاء القلب”، فيه تقدم خلاصة
تجاربها ومعايناتها بصفتها أخصائية نفسانية، حيث تؤكد أن للغة العواطف
قواعدها، وتطالب بضرورة إعطاء دراسة العواطف والانفعالات مكانتها التي تليق
بها في مناهج التعليم، والكف عن الاستخفاف بالقلب بوصفه مصدرا للمعرفة،
وأساس هذه الدعوة هو أهمية السعي لتهذيب انفعالات الإنسان كي يصل إلى مرحلة
“النضج العاطفي” التي تجعله أكثر مقدرة على فهم عالمه الخاص وعوالم
الآخرين. احد علماء النفس يقول، فيما يُشبه الخلاصة، “على قلوبنا أن تعرف
عالم العقل وعلى عقلنا أن يتخذ قلباً واعياً كدليل له”.
* نشر في ملحق “شرفات” بجريدة عُمان اليوم الثلاثاء 2/10/2012