المنشور

المثقف المذعور من الرأي الآخر



ما
من علاقة مملوءة بالالتباس والتعقيد والتشابك والغموض مثل علاقة المثقف
بالسلطة . تقليدياً كانت هذه العلاقة محاطة بما هو مدعاة للفضول وللنقاش
لأنها ملأى بالمفارقات، ربما لأن “سلطة” الثقافة، حين نعني بها المكانة
المعنوية أو الرمزية التي تمثلها هذه الثقافة، جعلت طرفي العلاقة في حالة
تجاذب، وراوحت هذه العلاقة بين القطيعة التي تجعل السلطة في خصام مع
المثقف، يصل إلى حد اضطهاد هذا المثقف أو عزله أو محاربته، وبين تماهٍ رخيص
يصبح معه المثقف أداة، ويصادر المساحة التي يجب أن تفصل بينه وبين هذه
السلطة، بصرف النظر عن طبيعة هذه السلطة، لأن حسابات السلطة، هي في الإجمال
مختلفة عن حسابات المثقف الذي يشتغل في حقل مختلف كلية عن الحقل السياسي
المباشر الذي تشغله السلطة . إنه معني بالرموز والمفاهيم والإشارات،
بالمعادل التخيلي للواقع الذي قد يفترق عنه، لا بل ويناقضه في العديد من
الحالات .


ليست
هذه الإشكالية ابنة اليوم، حتى تاريخنا العربي الإسلامي مملوء بالأمثلة
على العلاقة المعقدة بين المبدع والحاكم . إن مثال ابن خلدون على النحو
الدرامي الذي صاغه سعد الله ونوس في “منمنمات تاريخية”، أو مثال المتنبي،
لأدلة ساطعة على أن المبدع عرضة للتقلبات في هذه العلاقة، بالشكل الذي يجعل
سيرته الذاتية مثقلة باللحظات الصعبة التي عليه ان يختار في أثنائها أياً
من المواقع عليه أن يقف فيه، وهو اختيار نعلم أنه يتضمن محكاً عملياً لهذا
المبدع، ليس لأنه يتصل بمصداقيته فقط، ولكن لأن حساسية هذا المبدع ورهافته
هي التي تكون أولاً قيد الاختبار .


كان
سعد الدين إبراهيم قد صاغ منذ سنوات مفهوم تجسير الهوة بين المثقف والسلطة
في البلدان العربية، داعياً إلى إقامة جسر ينهي القطيعة بينهما، وهي دعوة
حمّالة أوجه، بسبب أنها تحتمل أكثر من تأويل، لأن الموضوع مادام يتصل
بتجسير الهوة، فمن هو المطالب أن يخطو نحو الآخر: السلطة أم المثقف؟ وإذا
ما انطلق المرء من معاينة للمشهد الثقافي العربي، فمن المنطقي أن يرى أن
السلطة هي المعنية بمثل هذه الخطوة، لأن نصيب المثقف من العزلة والتهميش،
لا بل والاضطهاد إنما يتم على أيادي السلطات، لكن هذا القول السديد إنما
ينطبق بدرجة أولى على تلك الشريحة من المثقفين والمبدعين الحقيقيين الذين
كان نصيبهم الإهمال والمحاربة، لأن ثمة شرائح أخرى وجدت عبر رادارات  قوية في رؤوسها الطريق الذي يجعلها دائماً في الموقع الملائم والمريح .


ثمة
جانب آخر كبير الأهمية في هذا السياق يتصل بنمط من المثقفين يصبحون في
علاقتهم مع زملائهم ومع الآراء والأفكار الأخرى أكثر تسلطاً من السلطة
نفسها التي تبدو في حالات معينة أكثر رحابة وتسامحاً من هؤلاء المثقفين،
ومرة كتب الناقد السعودي عبدالله الغذامي عن نموذج الطاغية حينما تصنعه
الثقافة، ملاحظاً أن المثقف نفسه قد يصبح طاغية . من جهته دعا الشاعر
العراقي نبيل ياسين إلى تفكيك صورة المثقف العربي الداعي إلى الديمقراطية
والمذعور منها في آن، ملاحظاً أن قسماً من المثقفين دعاة الديمقراطية ليسوا
هم أنفسهم بديمقراطيي التكوين في محيطهم الضيق، وفي علاقتهم مع الآراء
والأفكار المغايرة .


في
كلمات: إن المثقف العربي الذي يزعم مكافحة الطغيان قد يكون هو الآخر طاغية
إزاء من يختلف معه في الرأي أو الموقف . والأمثلة، قديمها وطازجها، أكثر
من أن تُحصى .