المنشور

الطغاة يجلبون الغزاة



في
واحدة من إضاءاته المدهشة تنبه ابن خلدون إلى ذلك الترابط بين أدوار
الطغاة المحليين والغزاة الآتين من وراء الحدود . يُمهد الطغاة لتدخل
الغزاة، ففي حالات يقومون باستدعائهم لنصرتهم، أو يحدث العكس تماماً، حين
يتذرع الغزاة الطامعون في احتلال أراضي الغير ونهب ثرواتها ببطش الطغاة على
مواطنيهم، فيجعلون من تحرير هؤلاء من ذاك البطش عنواناً لغزوهم .


كان
وجود هذا العدو الغازي، الفعلي أو المحتمل، ذريعة مناسبة لاستمرار
الطغيان، على النحو الذي تنبه إليه شاعر الإسكندرية في العهد الإغريقي
قسطنطين كانافيس حين قال في إحدى قصائده: “لأن الليل قد أقبل ولم يحضر
البرابرة / ووصل البعض من الحدود / وقالوا إنه ما عاد للبرابرة وجود /ماذا
سنفعل الآن بلا برابرة؟/ لقد كان هؤلاء الناس حلاً من الحلول” .


استوحى
الشاعر النص من حكاية فحواها أنه قد شاعت في المدينة أخبار أن البرابرة
قادمون لغزو المدينة، ومنذ الصباح الباكر لبس الحاكم أفضل ثيابه ووضع
نياشينه وانطلق على رأس وجهاء المدينة نحو الحدود بانتظار قدوم البرابرة
لمقابلتهم وصدهم، لكن حل المساء من دون أن يأتي البرابرة، حينها قال الحاكم
بأسى: “واأسفاه . . لم يأتِ البرابرة، فلقد كان في مجيئهم نوع من الحل” . 


حدث
هذا مراراً في التاريخ، وحدث في تاريخنا العربي الإسلامي ذاته منذ عصر
ملوك الطوائف في الأندلس، وستبلغ هذه المفارقة الموجعة حدها الساخر في
مآلات وضعنا الراهن، كما رأينا ذلك في نماذج العراق الحديث وليبيا الحديثة
وسواهما، مما نحن، ولسوء حظنا، شهود عليه، حيث يمكن قراءة أطروحة ابن خلدون
من الزاويتين المشار إليهما من واقع تجربتنا العربية المريرة . 


فالغزاة
المتوثبون رافعو شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، زيفاً، يستمرون في ضخ
الدعاية الواسعة حول ضرورة إنقاذ الشعوب من استبداد الطغاة الذين لا يمكن
إقتلاعهم من السلطة إلا بالقوة الخارجية الضاربة، والطغاة المحدثون
يستمرون، زيفاً أيضاً، في الخلط المغرض بين التطلعات المشروعة لشعوبهم في
الحرية، والأهداف الدنيئة للغزاة، ساعين لحشد الناس حولهم بذريعة مقاومة
هذا العدو، وهم الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة تجاه العدو الذي يحتل الأراضي
طوال عقود مكوثهم في الحكم، وترؤسهم للجيوش الضاربة، فلا هم صدوا العدوان
ولا هم منحوا شعوبهم الحرية .