المنشور

بصراحة مع الإعلام

في هذا المكان، ولكن في مقام آخر، كتبت أن الإعلام الرسمي، في أي مكان في
الدنيا، يُفترض أن يكون لإطلاع الناس على كل ما يحدث، إذ ليست هناك
«حقائق»، وهذا الاطلاع هو واجب على الإعلام الرسمي لأنه يُرعى من الأموال
العامة، والناس هم من يملك الأموال العامة ومن له الحق فيها، وبالتالي فلهم
الحق أن يعرفوا ما يجري، ومن حقهم بالتالي أن يقرروا الصواب من الخطأ في
كل موقف. ولا يمكن أن يستمر أي جهاز إعلامي رسمي في تغذية الناس بالملعقة
ما يجب عليهم أن يعرفوه، ويتولى هو إفهامهم ما يريدهم أن يفهموه، على
اعتبار أن الحكومة هي الأب أو ولي أمر الناس، وبالتالي فهي أعلم بمصلحة
أبنائها. هذا التغير في طبيعة التعاطي من شأنه أن يخلق طريقاً متعاكس
الاتجاهات يوصل رأي الحكومة للناس، ورأي الناس للحكومة، وعلى هذا الأساس،
أي عندما يفهم أو يتفهم كل طرف ما هو بصدده، وما عليه من واجبات، وما له من
حقوق، وما يفكر به سواء على المستوى العام، أو ما يفكر به تجاه الآخر،
يمكن حينئذ أن يتم قدراً كبيراً من التفاهم، إن لم نقل الاستقرار، ولهذا
الأمر شروط لا أود التطرق لها هنا للضيق النسبي للمساحة، ولأن الكتابة هنا
تذهب إلى الإعلام الرسمي الذي تتولاه اليوم زميلة إعلامية وينتظر منها أن
تعرف هذه المنطلقات التي عانت منها هي نفسها ذات يوم.


إن قدر «الإعلام» في البحرين أن يتولى أمره عدد من الرجال والنساء، لم
يكونوا إعلاميين بالمعنى الحرفي والاحترافي للكلمة. ففيما عدا نبيل الحمر
الذي درس الصحافة، وعمل في «هنا البحرين»، وأسس «وكالة أنباء الخليج»، وأسس
صحيفة «الأيام»، والآن هو مستشار جلالة الملك، لم يمرّ على الإعلام
إعلاميّ يشتغل وينشغل به تماماً، إذ أن التعيينات السياسية في هذا المنصب
لا تعني الإدارة فقط، ولكن المعرفة العميقة للإعلام من حيث التأثير،
والرسائل، والإدارة، والمعارف الأولية لكيفية إنتاج الخبر، فالصحيفة،
والبرنامج الإذاعي، والبرنامج التلفزيوني، وكيف يمكن أن يكون البرنامج
مؤثراً، وكيف يمكن أن تمرر من خلاله الرسائل المراد تمريرها على المستوى
المحلي والخارجي، من دون إفراط أو تفريط، أي من دون تضييق الهدف، أو
«تزغيط» (كما يقول المصريون) المتلقي بالرسائل بفجاجة ومباشرة تجعله ينفر،
بل يهرب بعيداً إلى باحثين آخرين أكثر لطفاً في تعاطيهم معه، بحيث لا ينفر
من تشرب الرسائل الأخرى حتى تسري في عروقه مسرى الدم، وهو سعيد بها.


أقول هذا الكلام وأنا من تعاون مع جهازي الإذاعة والتلفزيون بشكل متقطع منذ
1989، وهي شهادة ناقصة وأولية جداً، لأنني كنت في أغلب الحالات متعاوناً
خارجياً، ولست بقريب من آليات الآنتاج، ولكنها على أية حال شهادة أرجو
استكمالها من قبل الذين عملوا بشكل أكثر انغماساً في هذا الجهاز العظيم
والخطير في آن، وذلك إن أردنا إعلاماً متجاوزاً حاله اليوم الذي لا أعتقد
أنه سارّ لأحد، ولا للعاملين فيه أيضاً.


أولى المشاكل التي تصادف الإعلام الرسمي، هي المشاكل ذاتها التي تواجه
الوزارات والمؤسسات الحكومية في دوائر الاتصال (العلاقات العامة سابقاً)،
إذ أن قوانين وهياكل ديوان الخدمة المدنية لا يسمح لها إلا التوظيف بأقل
الرواتب والامتيازات، وبالتالي تحصل هذه الجهات على كفاءات حديثة العهد
بالعمل الإعلامي، وقد تقود الاعتبارات الأخرى إلى توظيف من ليست لهم علاقة
بالإعلام إلا المعرفة بالاسم. ومطلوب من هذا الموظف ذي المؤهلات والخبرات
الاعتيادية أن يقود سفينة المؤسسة إعلامياً ويرد على التساؤلات والهجوم
والشكاوى في بحر لجيّ متلاطم… وأنّى له ذلك؟


الأمر نفسه في الجهازين المرئي والمسموع، فاستقطاب الكفاءات لا يعني
شرائها، ولكن تنبيتها من هذه الأرض ليتم الاستثمار فيها، وتكون ذات
مصداقية. وحسنٌ أن تطعم الكوادر الإعلامية المحلية بالخبرات الخارجية، لا
أن تطعم الخبرات العربية والأجنبية بعناصر بحرينية. وهذا يحتاج إلى إيمان
بأهمية الإعلام ودوره الحيوي، وبالتالي رفع رواتب الجيدين فيه الآن، وإعادة
تأهيل جاد ومحسوب للعناصر الأخرى لكي لا تبقى خاملة وعالة على الجهازين.


والأمر الآخر، هو وضوح الرؤية. فلا يمكن لحكومة أن تمنح أية وزارة فيها
موازنة أعلى من السنوات الماضية ما لم تقدم خطة علمية وممكنة التحقق. فلو
سئل المواطنون عن برامج تلفزيونهم، لقال البعض منهم: صباح الخير يا بحرين..
هنا البحرين.. باب البحرين.. أنا البحرين (يا لها من قدرات إبداعية في
اختيار عناوين البرامج)، وجميعها ذات طوابع متقاربة بأشكال وأساليب عفا
عليها الزمن وما عادت كثيرة الإغراء وتحتاج إلى «نفض». فإذا ما تحدثنا عن
زيادة رواتب وتدريب، فلا بد من الحديث عن أعمال موازية تشير إلى أن هذه
الموازنة هي للاستثمار وليست للهدر أو إعاشة مجموعة من الأسر.


ومنذ أن تابع الناس في نهايات الستينات من القرن الماضي نزول الإنسان على
القمر عبر التلفزيون، حُكم عليهم أن يتخذوه سيدهم وقائدهم ومغير أفكارهم،
فكم أصبح عظيما هذا الجهاز حتى لو انتقل العالم إلى الشبكة العنكبوتية، فإن
شروط الإنتاج هي نفسها، ولكن دعونا نرصد تلفزيوننا لمدة أسبوع، وكم
البرامج التي أنتجها، وكم البرامج التي اشتراها، وما عمر هذه البرامج
المشتراة، ولماذا أنتج واشترى، وتحت أي خطة واسعة وعريضة تتلاقى خيوطها
لترسم صورة ذهنية لدى المشاهد؟ ستكون الإجابات في الغالب مرتبكة لأن
الاحتكام هنا لموازنة البرامج والأعمال الدرامية والأفلام التي لاكتها
القنوات الأخرى حتى استحلبت خير ما فيها، ولما بصقتها أتت المحطات الأخرى
لتأخذ العصرات التالية منها!
الأمر نفسه ينطبق على الإذاعة منذ عشرين عاماً أو يزيد، حيث لا توجد خريطة
برامجية تفصيلية تعرف ما الذي سيجري بثه، وما إذا كان المبثوث يخدم الأهداف
العليا للدولة، أم أنه مجرد يسد خانة، وينتفع بفتاته المعدون والمخرجون.


إذا كان الكاتب هنا لا يطمع أو يطمح في الحصول على منصب إعلامي، فإنني
أتمنى أن يُقرأ ما تقدم بشيء من المصارحة، لأن هناك ما هو أكثر صراحة
وعمقاً من هذا.