المنشور

محمد جابر الصباح: الوطنيةُ الباقيةُ

كان
في رحلته السياسية النضالية مميزاً. فتمازج مع مدينة المحرق التي كانت
مركزاً للحركة القومية المتوهجة، وقائدة في الخمسينيات بشكل وطني، وأفاضت
حراكها على البلد ككل في الستينيات، لكن هذا الوعي بدأ يخفت بعد ذلك وتطورُ
العمل السياسي تطلب أدوات فكرية جديدة وعمقاً مختلفاً. ومحمد جابر الصباح
كان في كل هذا الوهج على مدى هذه العقود التي كانت فقيرة في ظروفها مريرة
في عيشها.

لقد كانت مدينة الحماس الوطني، لكن الظروف المتحولة احتاجت
قراءة مختلفة، وبين القومية المنفعلة والفكر التحديثي مسافة كبيرة لابد من
قياداتٍ تردمها. لهذا كان الانتقال من هذه القومية المنفعلة للمذهبية
المحافظة شيئاً عادياً فيما بعد، وخاصة مع تبدل الحياة الوظيفية للعامة.
لكن المذهبية السياسية لم تكن بمستوى الدعوتين الوطنية والقومية
التوحيديتين اللتين لمتا صفوف المواطنين وتصدتا للاستعمار. وكانتا أساس
مرحلة التحرر والنهوض المستقل. وكان على محمد جابر أن يساهم في هذا التحول
الفكري السياسي الهام داخل مدينته وبلده.

إن تطور وعي الشخصيات
السياسية القيادية مسألة هامة فهي علامة للحياة وبث الفعل في الأفكار
الجديدة، ونقد القديمة ولهذا كانت ثمة قلةٌ أدركت أهمية هذه الخيوط الدقيقة
في المواقف، فالجمع بين القومية والوطنية والجذور الإسلامية والتوجهات
التقدمية هو أمرٌ ممكن، ومضيءٌ ومحول للحياة السياسية، فيما التمحور حول
المذهبية وتحويلها لموقف سياسي ملتهب، هو ذاته ما ناضل ضده محمد جابر في
تأثره بحركة هيئة الاتحاد الوطني التي فتح عينيه عليها والتي أسست الحركة
السياسية الحديثة الوطنية التوحيدية في البحرين.

محمد جابر الصباح عمل
في ميادين النضال والسياسة والعلوم والفكر القومي معاً، وأشترك في أنشطة
القوميين العرب الذين لعبوا الدور الأوسع في الحلول مكان حركة هيئة الاتحاد
الوطني وخاصة في المحرق، فيما بقية البلد تتجه أكثر لليسار. وكي يحصل
اليسار على عقول هذه القلة من المثقفين في المدينة احتاج الأمر فترة ولعب
محمد جابر هنا دوراً محورياً في هذا الانتقال.

الوعي الدقيق هو الذي
يجمع شعيرات الضوء في الحياة ويؤلف بينها ويحيلها لأفكار سياسية توجه
الناسَ للخطوات الصحيحة، والتي وحدها تغير حياتهم فيما الأفكار الخاطئة
تؤدي لارباكها وإحداث الفوضى فيها والفشل لنتائجها، أن لم تؤد بها للكوارث!


القومية المجردة التي ترفض تحليل الطبقات وتعتبرها خيانة تغدو صراخاً،
وهؤلاء البسطاء الذين ظللتهم بساطة الغوص وشظف البحر ما كان لهم أن يفهموا
الأفكار الحديثة الكاشفة للفقر والبطالة والاستغلال، لكن هذا التجاوز لابد
أن يقوم به أناسٌ، ويبذلون جهوداً مضنية لتحويل العقول، وأن يُعلموا أن
السياسة لم تعد هتافاً فقط بل برامج وتحليلات وعلوماً، حيث لم تكن ثمة
مقرات أو صحافة حرة.

هذه السيرة كاوية ومكلفة لأنها تضحية وكتابة بين
عروق البشر والزنزانات ودموع الأمهات وعذاب الزوجات، والغربة عن الأولاد
والبنات، على مدى عقود يكبرُ الأطفال فيها ويغدون شباباً وربما غرباء عن
آبائهم المناضلين.

الوطنيةُ البحرينيةُ لم تتشكل من الهواء، وتصادمت
الشعاراتُ المجردة والخيالية وحقائق الحياة، واحتاج الجمهور لجهود وتضحيات
لفهم الأفكار الجديدة المعبرة عن الطبقات الشعبية وكانت الأفكارُ التقدمية
في بيئة بسيطة الوعي حفرا في الصخور، حيث يختلف ذراعٌ عن ذراع في نفس الجسد
السياسي، ويتحول الرفيقُ لخط مضاد للتطور، والتوحيد، وحين يجثمُ القحطُ
السياسي في أعقاب الهزائم لا تجد مستمعاً، والناس تهرب من السياسة كما تهرب
من الوباء. لكن المحرق انضمت بقوة لموجة صوت العاملين.

وبعد تدهور
اليسار شرقياً فإن الكثيرين يبدلون جلودهم ويركبون تيارات جديدة، وتغدو
المذهبية السياسية تحدياً خاصة في البيئات التي لم تتكرس فيها التيارات
والطبقات الحديثة، ولهذا فإن هذا الكهل في زمنية الجدب السياسي وتدفق
الشباب على المذاهب الدينية السياسية يغدو مع ثلة صغيرة، لكنه يحول منزله
لخلية وعي، تتدفق أسبوعياً بالجدل والبحث وتبادل المنشورات، من أجل أن
تترسخ كلمة، وتتراكم معرفة ومواقف صائبة!

لهذا يغدو الموقف من
المذهبيين السياسيين في تلك الثلة الصغيرة مواجهاً بطوفان وتجيء نفس
القومية الحماسية الصاخبة السابقة، بقفزها على التحليل وكشف المحتوى
الاجتماعي والجذور التي خرجت منها، لترفد الجماعات الدينية الضائعة في بحر
السياسة والتي تتصور إنها الانقاذ والبديل للأفكار الغريبة عن جسم الأمة
فيما هي بحاجة لعون البحث والاكتشاف والقراءة!

لنتصور قامة منذ
الخمسينيات في معارك الشوارع والكلمة مثلت الخطوط الأولى من التحديث بقسمات
الوطنية والديمقراطية والعلمانية، ويظل تراكمها صعباً مخيفاً، لكنه لا
يُقبل تفتيتها، حيث يحول التفتيت الجماعات لكيانات متجوهرة حول ذواتها
متعادية وكل جوهر مطلق يمثل مذهباً، والتمزق يشرخُ خريطةَ البلد كل يوم!


حين كنا نرى ذلك المجلس ممتلئاً حافلاً في سنوات الوطنية ثم نراه ناضباً
مغلقاً في زمن الطائفية، نقول أين صرنا؟! وصاحبه الذي أعطى رحل، تاركاً
الحب والحزن في قلوب رفاقه.

مصير الحركة الوطنية ليس ميئوساً منه فقد
مثلت الانعطافات الفكرية والسياسية الأخيرة وذوبان المشروعات الطائفية
وتناحرها المريع في المنطقة تأكيداً لصوابية الأفكار الوطنية والقومية
والإنسانية التوحيدية، ودلت جنازة محمد جابر الصباح والحشد الذي جاء في أول
يوم لوفاته مظهرين يعبران عن استمرارية متأصلة في الأرض وضاربة بجذورها في
الحياة.