المنشور

تكرار ببغائي لمقولات شاخت



منذ ثلاثة عقود، حين بدا أن الأمر قد استتب لأحادية القطب في العلاقات الدولية، راجت الكتب والنظريات والفلسفات التي تروّج لنهاية التاريخ بالانتصار المبين لليبرالية الغربية التي قيل يومها إنها قد هزمت الأنظمة الشمولية .


النابهون من الناس وبعيدو البصر والبصيرة أدركوا، منذ ذلك الحين، أن هذه الأطروحات إنما كانت تؤسس لشمولية جديدة أشد خطورة، شمولية كونية، تجعل الشعوب كلها أمام خيار أوحد، لا ثاني أو ثالث له .


هؤلاء النابهون قالوا أيضاً إن هذه حال مؤقتة، لأن الأحادية هي نقيض لمنطق الأشياء وللطبيعة السويّة . كل شيء في الحياة، بما في ذلك أصغر الظواهر وأكثرها بساطة، قائمة على التنوع والتعدد، فما بالنا بالمجتمع البشري الذي يعج بالتناقضات على مختلف المستويات؟


حينها ساد ما يشبه الموضة التي تتحدث عن “موت” الأشياء أو فقدانها، لذلك سمعنا مصطلحات من نوع: موت الموضوع، موت الشعر، موت الفلسفة، موت المؤلف، نهاية الأيديولوجيا، لا بل وموت الإنسان نفسه .


لكن النابهين من الناس نبّهوا، في حينه أيضاً، إلى أن الموضة الجديدة، أياً تكن، هي محاكاة لموضة قديمة سادت في وقت آخر، ثم نسيها الناس أو أهملوها بعض الوقت، ليخرج من يعيدها إلى الواجهة مرة أخرى .


اليوم، بعد عقود على ذروة الرواج التالي لهذه الأطروحات، يظهر جلياً أنه لا الإنسان من حيث هو موضوع للعلم قد مات أو تلاشى، ولا التاريخ انتهى أو توقف عند محطة أخيرة، فهو يستمر بضجيج أكبر وبحشد لم يسبق له مثيل من المآسي والحروب والنهب والاضطهاد، ولا حتى الأيديولوجيا، هذه المفردة التي أصبحت بغيضة لكثرة ما ابتذلت وأزيل عنها طابعها العلمي، قد تلاشت أو انحسر مجال تأثيرها .


وإذا كان رواج هذه النظريات في الغرب مفهوماً، حيث أنجزت الحداثة، ولم يعد الحديث يدور عما بعد الحداثة، وإنما أيضاً عن “ما بعد ما بعد الحداثة”، في ما يشبه رد الاعتبار لقيم جرى التنازل عنها، فإن التكرار الببغائي لهذه المقولات في عالمنا العربي يبدو أشبه بالأضحوكة، في أوطان مازالت نسبة الأمية تصل في بعض المناطق فيها إلى نسبة ثمانين في المئة، ومازالت أجزاء من أراضيها تحت الاحتلال، فيما الفكر العربي يتراجع بشكل مروّع عن أطروحات رواد الفكر النهضوي العرب الذين آلفوا بين الإسلام والحداثة .