المنشور

“الاستثناء” أكد القاعدة



حتى حين، ليس ببعيد، جرى النظر إلى تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، بوصفها نموذجاً مختلفاً عن تطور “الحالات” الإسلامية في البلدان الأخرى، ليس فقط لأن القائمين على هذه التجربة  أظهروا مرونة في التكيف مع المستجدات الدولية والإقليمية، ومع خصائص وسمات الوضع الداخلي التركي الذي عبر مساراً معقداً من دولة الخلافة الإسلامية إلى علمانية أتاتورك التي تمحورت حول دور مركزي للدولة ظل منفصلاً في بعض حالاته عن حراك المجتمع المدني وفاعليته، رغم أن النموذج التركي في تحولات “الحالة الإسلامية” مازال في حالة صيرورة حتى يستقر على حال من الثبات النسبي تجعله صالحاً للقياس .


أريد لهذا النموذج أن يقدم سعياً لاجتراح حداثة بديلة، كما يعبر عن ذلك محرر كتاب “عولمات كثيرة” بيرغر وهو يقيم مقارنات بين انعكاسات آليات العولمة أو أشكال تجليها المتناقضة أحياناً، بين بلد وآخر، فلم يرفض الإسلاميون الأتراك الحداثة كما تفعل حركة “طالبان” أو على نحو ما يدعو إليه بعض غلاة المحافظين في الجمهورية الإسلامية في إيران .


صدّر الإسلاميون الأتراك خطاباً بدا مقنعاً للكثيرين، يعكس حاجات تركيا لا في علاقتها مع محيطها: أوروبا من جهة والعالم الإسلامي من جهة أخرى، وإنما عبر التصالح مع التاريخ التركي  بكامله، في خلفيته الإسلامية الراسخة وفي برنامج التحديث الذي قاده أتاتورك، فلم يتحدثوا عن الأتاتوركية كعنصر دخيل أو منبتّ الصلة عن جذور تركيا وحاجاتها في تاريخها القريب وفي راهنها أيضاً .


“الاستثناء” التركي عاد فأكد القاعدة، وأظهر أن الطبع يغلب التطبع في اللحظة الفارقة الحاسمة، ففي بلد يحتكم إلى الآليات الديمقراطية، وتحكمه حكومة منتخبة، كانت أمام رجب طيب أردوغان خيارات مختلفة في التعاطي مع الأزمة الأخيرة، غير إرسال قوات الأمن لتفريق المحتجين في ساحة “تقسيم” بالقوة، وأكثر من مرة، وبالإصرار على المضي في مشروع إزالة حديقة وإقامة مشروع تجاري محلها، وهو من حيث الطبيعة، مشروع بلدي يجب أن تتكفل به بلدية اسطنبول، لا أن يعتبره رئيس الحكومة قضية مصيرية بالنسبة له، مهدداً ومتوعداً المحتجين بالويل والثبور .


ربما “ينجح” أردوغان في كبح الحراك الشعبي واحتوائه، لكنه بالتأكيد فشل في الأمر الأساسي موضع الرهان، وهو البرهنة على قدرة حزبه على احترام الآليات الديمقراطية في الحكم، وقبول التعددية الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع .