المنشور

الزمن الطائفي



مَن كان يُصدق أن تندفع مجتمعات قطعت هذا الشوط من التمدن والتحضر والتثقف، هذا الاندفاع العبثي المجنون نحو التخندق الطائفي، الذي أصبح فتنة تعاش وتمارس في غير بلد عربي، وحمى الله بقية الأوطان من شرورها التي لن تبقي ولن تذر؟


كيف حدث في وهلة أن تنكرنا لميراث العيش المشترك والأفكار الجامعة الموحدة، ليعود الناس، إلى ما كانوا عليه، قبل ذلك، مجموعات مذهبية منغلقة على نفسها، ترى في المجموعات الأخرى التي تشاطرها الأرض والتاريخ والعيش خصماً لدوداً؟ وكيف أفلحت قوى الشر، في الداخل والخارج، في تحويل مشاريع التغيير التي نذرت أجيال من أبناء هذه الأمة حياتها من أجله، إلى مشاريع للتعصب والكراهية، واستعادة صراعات وخلافات موغلة في القدم، مضت عليها قرون مديدة لتصبح راية للخلافات الراهنة، وليضيع مشروع المستقبل، ويصبح سجالنا في الماضي، الذي قررنا العودة إليه القهقرى؟


حتى حين من الزمن كانت القوى التي أفرزها المجتمع الحديث، من طبقة عاملة صناعية واعية لارتباطها بأكثر وسائل الإنتاج الحديث، ومن طبقة وسطى مدينية متعلمة متشربة بقيم التنوير والتقدم هي وازن المجتمعات العربية في النأي عن الاستقطابات المذهبية وغيرها من ضروب الاصطفاف القديم، لكن الصناعة خربت بتدمير القطاع العام وبيعه وتفكيكه عبر الخصخصة وسواها، وتحولت البلدان إلى “سوبر ماركت” كبير، فيما جرى تشتيت الطبقة الوسطى، بانحدار قطاعات واسعة منها نحو الإفقار، وصعود شريحة محدودة، هي الأكثر طفيلية ودهاء، إلى ذرى الثراء .


وكان المؤمل أن تحتفظ طلائع هذه القوى المنظمة، من أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومهنية ومؤسسات للمجتمع المدني، بطابعها العابر للطوائف والمذاهب، فإذا بها، هي الأخرى، تنقسم على نفسها، تبعاً للولاءات التقليدية، وليغدو الفكر الحديث أداة لتبرير الانحيازات الطائفية والمذهبية والعرقية وتسويغها، بدلاً من إعمال منهج النقد والتحليل العلمي لتشخيص الأخطاء وبما يعيد لهذه القوى دورها الوازن .


ما يجري اليوم من تردٍ في الوعي، ومن انفلات للغرائز المذهبية والطائفية، على غير صعيد، يجعل مهمة اولئك الذين ما زالت حية، في قلوبهم وأدمغتهم وضمائرهم، جذوة الوعي التقدمي والوطني مهمة في غاية التعقيد والصعوبة، ومع ذلك فإن الأنظار لا يمكن إلا أن تتوجه نحوهم، علهم يقتدون بأسلافهم ممن امتلكوا الشجاعة في إضاءة شمعة وسط ظلام حالك، في أزمنة