المنشور

التعقل والجنون



في
فيلم “إحنا بتوع الأوتوبيس” يسأل ضابط المخابرات (قام بأداء دوره الممثل
سعيد عبدالغني)، يسأل جابر، المعتقل رهن التحقيق والمتهم بالمشاركة في
مؤامرة لقلب نظام الحكم (وقد قام بأداء هذا الدور الممثل الكبير عادل
إمام): إلى أي التنظيمات السياسية تنتمي؟ . . فيجيبه (عادل إمام أو جابر)
بكل براءة، بأن “والدي كان دائم الحرص على تذكيري بنصيحته الأثيرية “يا
جابر سايس الناس يا جابر . . يا جابر سايس الناس يا جابر” . ومع أن المحقق
(سعيد عبدالغني) آثر وتعمّد تأويل المعنى البسيط، السمح، والمغزى الإنساني
الحكيم، لكلام جابر بقصد إيقاعه في تهمة التآمر على النظام، إلا أنه
(المحقق) قد فهم بالتأكيد المقصود الصدوق لما عناه جابر بكلماته البريئة،
وهو أن عليه – بحسب توصية والده الفلاح المصري البسيط – أن يتعامل مع الناس
بالعقل والحسنى كي يكسب فهمهم وودهم له .


وقديماً قالوا: “العقل زينة” . . أي أنه أفضل حلة قشيبة يمكن للإنسان أن يتزين بها بين الناس .


الآن
وفي ضوء اللوثة الطائفية والمذهبية التي تجتاح العالم العربي منذ بعض
الوقت التي ارتفعت وتيرتها وحدّتها في الأيام القليلة الماضية، وأدخلته في
المرحلة العبثية والعدمية اللامعقولة، إلى حد مقاربتها لمنزلة الهمجية،
يتساءل العقلاء الذين احتفظوا بسلامة كينونتهم وبحسهم الإنسانيين، على ماذا
يمكن المراهنة في تجاوز أخطر مأزق حضاري وأقوى وأعتى تهديد تتعرض له
الجبهات الداخلية للمجتمعات العربية في العصر الحديث المرتبط بتشكّل وقيام
الدولة العربية الحديثة؟ . . على التسامح، أم على انكسار هذه الموجة
الجاهلية نتيجة لإصابة بعض أجزائها بالعطب بفعل اختلالات عناصرها الداخلية،
أم على تعرّض الموجة لضغوط من خارج بوتقتها تجبرها على الانكفاء والخمود .
. أم على العقل الوازن بحكمة، مُطلق جرس الإنذار الأخير للجميع بضرورة وقف
العبث؟! . .


كما
صار واضحاً وملموساً، فقد قفزت الفتنة الطائفية والمذهبية إلى صدارة
المشهد العام في معظم الساحات العربية تقريباً، وأمام أعين الجميع تدور رحى
معركة حامية الوطيس بين العصبيات الجاهلة المندفعة بشراسة في محاولات
تموجية متواترة ومتجاسرة لإزاحة العقل والتعقّل من طريقها . والمدهش أن
التيار الجارف لهذا العصاب الطائفي والمذهبي المنفلت العقال، قد استطاع في
لمح البصر أن يجذب و”يجرف” معه ليس فقط معشر الدهماء، وإنما حتى أولئك
الذين كان يعتقد أن نسق منظومتهم المعرفية والإدراكية الواعية تحصّنهم ضد
تلك “الخزعبلات” الجاهلة، إذ تبين أن موروث الجهالة و”زئبقية” المصلحة، أشد
وأصلب عوداً، وترتيباً أقوى تأثيراً ومفعولاً، من تلك الأبنية المعرفية
والإدراكية المتقادمة على ما بدا .


فلا
غرو، والحال هذه، أن ترى العقلاء والحكماء يتامى وسط هذه اللوثة العصابية
المتطيّرة . وعلى قلتهم فإن أصواتهم العقلانية “مخنوقة”، لا تكاد تسمع في
حمأة الضجيج الذي يصم الآذان لتلك العصبيات المنفلتة من صوب تلك الكتل
البشرية الدهماوية (التي تحولت بالمناسبة في أوروبا المعاصرة إلى مجاميع من
الأفراد المدركين لحقوقهم وواجباتهم في ظل العقد الاجتماعي) التي كرس عالم
الاجتماع الفرنسي “غوستاف لو بون” (1841 – 1931) لدراساتها، مؤلفه الموسوم
“سيكولوجية الجماهير” الصادر العام 1895 .


اليوم،
في عالمنا العربي، كما كان الحال في أوروبا ما قبل العقد الاجتماعي، هنالك
بالتأكيد بيئة حاضنة لهذا الاندفاع المهووس لنفرة العصبيات الطائفية
والمذهبية، والتي يتصدر عناوينها الخطاب المنبري الديني ورديفه الخطاب
الإعلامي اللذان يشكلان رأس الحربة في حملة التحريض والتجييش الطائفي
البالغة الضخامة لجهة حجم الكتل البشرية وحجم الأموال التي قُذف بها وسط
جحيمها وشررها المتطاير .


ولولا
بقية من حكمة وعقل مانعين، حتى الآن، لنذر الشؤم، لكانت ساعة الصفر قد
دقّت معلنة اندلاع “حرب البسوس الثانية”، (حروب الطوائف) على نحو لا يمكن
التنبؤ بمآلاته الكارثية .


ومع
ذلك فإن هذا التعقل الحكيم يغالبه تيار قوي نازع إلى تسخير سلاح العصبيات
الطائفية لحسابات سياسية تتصل بشبكة واسعة من المصالح الفئوية والجهوية .