المنشور

الطغيان والخنوع



ما من قيمة في الحياة في محل تقريظ وإشادة كقيمة الحرية، ولكن ما من قيمة مكبلة بالقيود وبالمحاذير وبالمحظورات مثلما هي الحرية .


إننا جميعاً نمشي بمحاذاة الحائط لأننا اعتدنا الاتكاء عليه ولم نتعلم بعد المشي الحر في الشوارع الفسيحة برجلين طليقتين، ونحن نمشي مطأطئي الرؤوس لأننا اعتدنا أن تكون السقوف واطئة، وأن رؤوسنا دقت بما فيه الكفاية بهذه السقوف حتى أصبنا بالدوار فلم نعد نعي مواقع الجهات الأربع .


ومع الوقت نشأت في دواخلنا سيكولوجيا العبد نحن الذين ولدتنا أمهاتنا أحراراً، وحين نتذكر تلك النصيحة الذهبية التي أطلقها أحد الكتاب “احذر الإنسان الذي يشعر أنه عبد، فلسوف يريد أن يجعل منك عبداً” حتى نشعر بأن ماءً بارداً صب على رؤوسنا، لأننا إذ ندرك في قرارات أنفسنا أننا لسنا أحراراً نمارس التسلط على من نظنهم أدنى مكانة منا، فتعجب كيف تجمع الناس بين شخصية الطاغية وشخصية الخَنوع، في أشبه ما يكون بسيكولوجيا التعويض .


في كتابه الطريف “المستطرف الجديد” ينقل الباحث الراحل هادي العلوي أقوالاً وحكماً من التراث العربي الإسلامي تدلل على أن الوعي بهذا الأمر يمتد بعيداً وعميقاً، فينسب للخليفة الراشد عمر بن الخطاب قوله “ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه”، أما أبو حيان التوحيدي فيقول “ما تعاظم أحد على من دونه، إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقه” .


افتقادنا إلى الحرية كشعور بالانطلاق ينسل عميقاً إلى أدق تفاصيل حياتنا، إنه يمس على سبيل المثال قيمة نبيلة كقيمة الحب، من يقول إن عواطفنا حرة، أو إننا نعبر عن مشاعرنا حيال الآخرين بشكل حرٍ ومجرد وخالٍ من الحسابات والاعتبارات؟!


ليس في استطاعة المرء أن يحدد يقيناً إلى أي مدى تكون علاقاتنا بالغير نتيجة لعواطف، لحبنا أو للاحبنا، لعطفنا أو كرهنا، وإلى أي مدى هي محكومة سلفاً بموازين القوى بين الأفراد .


هذه الملاحظة إذا كانت تصح على البشر جميعاً بصرف النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم، فإنها تصح بمقدار مضاعف على مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية “تُشيء” فيها حتى العواطف .


“إن طيب الإنسان الحقيقي لا يمكن أن يتجلى بكل صفاء وحرية إلا حيال أولئك الذين لا يمثلون أية قوة”، والقوة هنا مأخوذة بمعناها الشامل وتجلياتها المختلفة التي تتوغل في أصغر الخلايا وتندس في أدق الشرايين .