المنشور

“الاستعمار” باقٍ إلى حين



في
ضوء استمرار وجود 16 منطقة مازالت تحت السيطرة الاستعمارية الأمريكية
والبريطانية والفرنسية . لم تكن الأمم المتحدة بتركيبتها الحالية جادة بما
يكفي للتعامل مع مشكلة القضاء على الاستعمار وآثاره، مثلما أنها لم تبذل ما
يكفي من جهد للخروج بتعريف دولي متفق عليه حول الإرهاب .


فمن
الغرابة بمكان أن الأمم المتحدة التي تسرف في حديثها عن استمرار وقوع 16
منطقة في العالم -وهي بالمناسبة جزر صغيرة متناثرة لا يتجاوز إجمالي عدد
سكانها جميعاً المليوني نسمة – لا تأتيِ في تقاريرها تلك على الفضيحة
الأكبر وهي الاستعمار الصهيوني لأرض فلسطين وشعبها الذي يناهز سبعة ملايين
نسمة موزعين بين مناطق الشتات والمناطق المحتلة .


والذي
لا ريب فيه أن الأمم المتحدة الواقعة تحت سطوة الولايات المتحدة والبلدان
الحليفة لها في أوروبا الغربية، قد اختارت التعامل مع قضية الاستعمار
“الإسرائيلي” للأراضي الفلسطينية والعربية، باعتبارها حالة خاصة “Special case”،
هي من اختصاص الولايات المتحدة حصرياً، التي لا تسمح، كما هو معروف لأي
دولة أو منظمة بالاقتراب منها إلا لو كانت مقتضيات العلاقات العامة وإضفاء
طابع الإجماع الدولي الشكلي على خطوات أو إجراءات  تنوي اتخاذها في إطار تأمين ظهر الحليف “الإسرائيلي” التابع  تقتضي ذلك .


ولما
كانت الولايات المتحدة وحليفاتها بلدان أوروبا الغربية، قوى استعمارية
تقليدية سابقة، هي التي أنشأت الكيان الصهيوني وأمدته، ومازالت، بأسباب
القوة والحياة . فهذا يعني أن العقلية الاستعمارية وسياساتها المستنبطة،
مازالت حية وفاعلة لدى دهاقنة الطبقات السياسة المتبادلة لكراسي الحكم في
الغرب الرأسمالي .


وهناك
أمثلة عديدة على استمرار عمل قادة الدول الكولونيالية بنفس عقلياتها
ومناهجها السياسية المتصلة بعلاقاتها الدولية . تابع ودقق مثلاً كيف تتتبع
محطة هيئة الإذاعة البريطانية – إحدى أذرع السياسة الخارجية البريطانية
-الأحداث وتطورات وقائعها في الدول غير المرضي عنها من مستعمراتها السابقة،
وكيف تغطيها بشكل كيدي وتأليبي يروم أبلسة حكامها، مثلما هو حادث، على
سبيل المثال، مع زيمبابوي (روديسيا الجنوبية قبل الاستقلال) المستعمرة
البريطانية السابقة (1888-1980)، وذلك في انحياز مكشوف إلى القوى المناوئة
للنظام  القائم هناك على أمل تمكينها من إطاحته وتسلمها زمام السلطة وإعادة علاقات التبعية مع لندن .


ومن
جنوب القارة السمراء إلى شمالها، إلى مصر، حيث شهدت الأيام القليلة
الماضية تكالباً دبلوماسياً مكوكياً، رابَطَ في القاهرة خلالها طاقم من
الاتحاد الأوروبي بقيادة كاثرين أشتون، بالتوازي مع تواجد “ثقيل” لمبعوثين
أمريكيين على رأسهم وليم بيرنز نائب وزير الخارجية وجون ماكين صقر
الجمهوريين المعروف بعلاقاته المريبة مع من يُسَمّون بالجهاديين وزعيم
الجناح المؤيد بقوة لتمكين الإخوان من الصعود إلى سدة الحكم في العالم
العربي . لقد حضر كل هؤلاء إلى القاهرة ومارسوا عليها في الكواليس ضغوطات
من أجل التوصل إلى صفقة تسمح بإعادة الإخوان إلى واجهة الحكم .


العقلية
ذاتها للطبقة السياسية المهيمنة هي التي حملت الرئيس الأمريكي الأسبق بيل
كلينتون إلى القارة السمراء أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي، زار خلالها
عدداً من بلدانها مثل تنزانيا والسنغال للترويج “لصندوق كلينتون وتشيلسي”
(صندوق يحمل اسمه واسم ابنته أنشأه كما قال لتنفيذ برامج إنمائية (بنية
أساسية) في إفريقيا ومكافحة مرض الإيدز في القارة، بينما يصب هذا الجهد في
إطار سياسة قضم النفوذ، خصوصاً بعد أن تمكنت الصين من تثبيت أقدامها بقوة
في القارة، وهو ما اعترف به كلينتون نفسه أواخر شهر يونيو/حزيران الماضي في
مقابلة مع ال “بي بي سي” حين قال بالحرف “نحن نلعب لعبة الاصطياد مع
الصين” .


ومع
ذلك هنالك فرق بين ما يقوم به الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في سياق
جهود الطبقة الأمريكية الحاكمة، لتعظيم مصالح ونفوذ بلاده في القارة
السمراء، وبين ما قام به النظام السياسي الأمريكي ومن خلفه الدول الأوروبية
الحليفة، من ممارسة ضغوط هائلة على مصر لتقرير شكل ونوع تركيبة نظامها
السياسي . فالأول يندرج في إطار العمل “الدعوي” السياسي والبروباغندا
والتنافس الذي لا تعترض عليه الإطر الشرعية ومنظوماتها القانونية، اللهم
إلا من النواحي الأخلاقية ربما، في حين أن الهجمة “الناعمة” المشار إليها
في الحالة المصرية، تندرج بالضرورة في إطار الممارسة الفعلية لعقلية
الوصاية الاستعمارية التي مازالت تستند إلى المبدأ الفلسفي ل “فريدريك
نيتشه” وأضرابه “الحق صنو القوة”، وعلى مغانم النظام الذي أشادته بعد
انتصارها في الحرب العالمية الثانية على ألمانيا النازية .


الصين
وروسيا راحتا هما أيضاً تجاريان نزعة النفوذ والهيمنة الغربية في القارة
السمراء . وقد نجحتا، لاسيما الصين، في خلق مواطئ أقدام اقتصادية ثابتة
لهما في عديد بلدانها . ولكنهما يفتقدان إلى الخبرة التاريخية ومواقع
النفوذ الكولونيالية التي مازال يتمتع بها الغرب الأمريكي والأوروبي .
فضلاً عن تفوقه عليهما في مجالات الميديا ولغة التخاطب وسلاح حقوق الإنسان
المرتبط بالجانب “البروباغاندي” للآلة الإعلامية “الفتاكة” .