المنشور

خرج الاستعمار أم لم يخرج؟



ذهب
الاستعمار ولم تذهب عقليته ولا أدوات ممارسته ولا سياساته من السهل على
جمهرة واسعة من المحللين والمراقبين والخبراء الذين تزدحم بهم الفضائيات
العربية، ترديد أفيشات كلاسيكية محفوظة من قبيل أن عصر الاستعمار قد ولّى
إلى غير رجعة . وهم محقون في ذلك . إنما ما يذهبون إليه في القصد ينصرف
حتماً إلى جلاء الوجود المادي للاستعمار . وهذا لا يعدو أن يكون تقريراً
مدرسياً كلاسيكياً للتنظير المنهجي إذا أُخذ في الاعتبار الإطار الكلاسيكي
العام للمفاهيم الدارجة منذ غروب حقبة الاستعمار .


ولكن
في ما بعد تبيّن أن مثل هذا التنظير التجريدي، قاصر، وإن خللاً يعتور
مذهبه الكلاسيكي السطحي في ضوء ما تكشف عنه من حقائق على الأرض عجز مفهوم
الاستعمار الكلاسيكي عن احتسابها واستدراكها، فانطلق التنظير آنئذٍ من
أرضيات جديدة قوامها مفهوما الاستعمار المباشر والاستعمار غير المباشر،
وظهرت نظريات اجتهادية، تطويرية للمفهوم “العتيق” للاستعمار، من قبيل نظرية
ما بعد الكولونيالية، ونظرية العقلية الكولونيالية، حيث اتضح أن
الكولونيالية (الاستعمار)، لا تزول بزوال الاحتلال المادي للقوات
الاستعمارية، إذ تذهب “نظرية ما بعد الكولونيالية” لطرح تحدي كيفية التعامل
مع التركة الثقافية للحكم الاستعماري وتخصيصاً الاستعمار الأوروبي المتمثل
في الاستعمار البريطاني والاستعمار الفرنسي والاستعمار الإسباني، ومنها
التركة الثقيلة على الدولة وعلاقات التشبيك الاجتماعي والسياسي والثقافي
المصلحي التي نسجتها القوى الاستعمارية مع بعض مراكز القوى المحلية لتأمين
الاستدامة الكولونيالية والكولونيالية الجديدة .


وهناك
ما يشبه الإقرارات الخجولة والكتابات “القشيبة” حول ما تعتبره (تلك
الكتابات) وجوداً لبقايا الاستعمار، ما زالت قائمة في بعض بقاع الأرض (جبل
طارق الذي تحتله بريطانيا منذ 4 أغسطس/آب العام ،1704 الذي هو عبارة عن
لسان بحري صخري يمتد داخل البحر الأبيض المتوسط على مساحة تبلغ 7 كيلومترات
مربعة، وجزر فوكلاند الأرجنتينية التي أعادت بريطانيا احتلالها واستعمارها
بمساعدة الولايات المتحدة في عام ،1833 وجزر توركس وكايكوس الواقعة في
البحر الكاريبي (30 جزيرة) والتي تبعد 145 كيلومتراً عن جمهورية
الدومينيكان المستعمرة البريطانية السابقة . حيث قامت الحكومة البريطانية
في عام 2009 بتعليق العمل جزئياً بالدستور وفرض وصاية بريطانيا المباشرة
على حكم البلاد، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية عارمة ضد بريطانيا .


لقد
شهد العالم في النصف الثاني من القرن العشرين أكبر موجة من موجات التحرر
الوطني في التاريخ، فكان أن ارتفع عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم
المتحدة من 51 دولة عند تأسيسها في عام 1945 إلى 193 دولة اليوم . ولكن
وبعد مرور أكثر من 50 عاماً، ما زال بعض بقاع العالم مستعمراً، حيث اعتبرت
الأمم المتحدة في عام ،2012 16 منطقة في عداد المناطق التي ما زالت خاضعة
للاستعمار (البريطاني والأمريكي والفرنسي تحديداً)، من بينها جزر كيمان
وبرمودا وغوام وجبل طارق وجزر سالفيناس الأرجنتينية التي احتلتها بريطانيا
وغيرت اسمها إلى جزر فوكلاند . رغم أن الأمم المتحدة لديها لجنة خاصة
بإنهاء الاستعمار مهمتها المتابعة والإشراف على تنفيذ قرار الأمم المتحدة
الصادر في 14 ديسمبر/كانون الأول 1960 والقاضي بمنح الاستقلال للدول
والشعوب الرازحة تحت نير الاستعمار .


وكانت
الأمم المتحدة قد حددت عقد التسعينات 1990-،2000 ومن بعده العقد الأول من
الألفية الثانية 2000-،2010 لإنهاء الاستعمار بشكل كلي وناجز، إلا أنها
فشلت في تحقيق ذلك، فكان أن أعلنت من جديد عقد 2010 -2020 عقداً دولياً
لإنهاء الاستعمار، وذلك عملاً بالمواد 1-55 من ميثاق الأمم المتحدة التي
ينص أحد مبادئها وأهدافها الأساسية على “بناء علاقات صداقة بين الأمم قائمة
على احترام مبدأ المساواة في الحقوق وحق الشعوب في تقرير مصيرها” . فضلاً
عن تكريس ثلاثة فصول من الميثاق، وتحديداً الفصل الحادي عشر، والفصل الثاني
عشر للمناطق التابعة .


وإذا
ما توخينا الدقة والموضوعية فإن الأمم المتحدة لم تُظهر، في الواقع، جدية
كافية لمكافحة الاستعمار ومخلفاته وآثاره في البلدان والشعوب التي عانت وما
زالت تعاني الاثنين، الاستعمار وتركته الثقيلة . ويكفي للتدليل على ذلك
تحري “حرفية” صياغة نصوص ميثاقها سالفة الذكر، التي شاء منشئوها تفادي
تسمية الاستعمار بمسماه والاكتفاء بالإشارة إليه بمسمى المناطق التابعة .