المنشور

قُل لي ما هو إعلامك أقل لك من أنت

بمطالعة سريعة لمانشيتات الصحف الصادرة في العواصم العربية،
يمكن للمرء أن يستقرأ ويستنبط حقيقة ما يدور من أحداث وتطورات داخل الأوطان
العربية، ككيانات مؤسسية سيادية، وكمجتمعات تستظل بحاكمية هذه الكيانات، ليس فقط
الظاهر منها على مشهد الحدث الجاري، وإنما حتى ما هو واقع خلف المشهد.
 
فبعد أن درجت أجهزة الميديا العربية، وجلها يشكل، بصورة
مباشرة أو غير مباشرة، جزءاً من المنظومة المؤسسية السيادية للدولة العربية
المعاصرة، على تدبيج الكتابات الإيجابية للعمل المؤسسي الحكومي، إذا بها تجد نفسها
بعد تصدع الأنساق التقليدية لأجهزة التسيير الكلية تحت تأثير الفوضى التي أشاعا ما
يسمى بالربيع العربي في عموم المنطقة العربية، مضطرة للتعامل مع هذا المستجد
النوعي من تحديات، ظاهرها وباطنها الفلتان التنموي الشامل الذي نعايش دقائق أموره
اليوم بقلوب خافقة وقلقة على المصير العربي العام.
 
اليوم اختلفت الصورة في الإعلام العربي، الرسمي وغير
الرسمي، تماماً عما كانت عليه من نسق كتابات نمطية رتيبة تكاد تكون محفوظة المحتوى
والمبتغى، بل وحتى السياق ووتيرته، قبل اندلاع موجات الاحتجاجات العارمة التي
أطاحت بالإيقاع المعتاد للحياة العربية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية والنفسية.
 
عناوين صحافة اليوم في غالب بلداننا العربية للأسف
الشديد، تعكس حال الاحتقان والتوتر والتجاذبات المؤسسة أصلاً على انقسامات
اجتماعية متراكمة، متعلقة بتوجهات دينية أو طائفية أو مذهبية، بما تتضمنه من عراك
وقدح وهجاء ومناكفات لا تنتهي، في وجبة يومية متقدمة على ما عداها من تغطيات
لأعمال وأنشطة الشأن العام التي لم تعد تحظى بالأولوية في الاهتمامات الرسمية وغير
الرسمية.
 
على أنه وقبالة هذا النفس المشحون والسلبي الذي يعكسه معظم
صحافتنا العربية السيارة اليوم، هنالك وجه آخر تعكسه صحافة بعض الدول العربية
المنصرفة كلياً للاهتمام بشـئونها التنموية، حتى يصـح عليها القـول إنها فعـلاً
دول “مشغولة” (Busy States). وفي مقدم هذه الدول بالتأكيد دولة الإمارات العربية
المتحدة الشقيقة التي تشعر بمجرد أن تلقي نظرة سريعة على عناوين صحافتها، إنك أمام
دولة مكرسة كل اهتمامها وجهودها للبناء والنهوض التنموي على كافة المستويات دون
استثناء، فلا يكاد يمر يوم من دون إنجاز (حقيقي وليس هامشي بروباغاندي) تعكسه
أجهزة الميديا الإماراتية، التي تميزت هي الأخرى عن باقي أجهزة الميديا العربية،
نوعاً وانتشاراً.
 
ومن دون شك فإن هذا التفاوت في درجات الاهتمام والتركيز
على الهم التنموي، الواضح والمتزايد، بين مختلف مناطق الإقليم الجغرافي العربي،
والذي يعكس بالضرورة درجات التفاوت في البناء التنموي التراكمي، سوف يزيد بلا شك
الفجوة اتساعاً، والواقعة أصلاً، بين مختلف الكيانات العربية.
 
ولذلك حين تهدأ هذه العواصف الهوجاء التي تعصف اليوم
بالعالم العربي يمنةً ويسرة، وتعود الأمور إلى بعض مستقرها، فإن أجهزة الميديا
النمطية لن يكون بمقدورها العودة الطبيعية “الرشيقة” لرتابتها ونمطيتها
السابقتين، بعد أن تخطتها الأحداث و”علّبتها” بصورة يعصب استيعابها
ثانية ضمن بوتقة التشكيلات الاقتصادية/الاجتماعية المتصيرة بعد ارتخاء حبل الزوابع
الحالية. حتى إذا ما عاد ذلكم النوع من الإعلام النمطي إلى سابق عهده، بمباركة من
مراكز القوى التقليدية الممانعة للتغيير والتحديث، فإن المتوقع على نطاق واسع أن
يجري استقبال إعادته إلى دائرة الضوء ولكأن شيئاً لم يكن، بفتور تام من جانب
المجتمعات العربية التي رأت فيه بأم أعينها الدور “الفاعل” الذي أداه في
تعقيد مناخات التأزيم وإطالة أمدها.
 
وبهذا المعنى يصبح من نافلة القول ان تنطوي التشكيلات
الاقتصادية/الاجتماعية ما بعد انكفاء قوى التأزيم وتواري بيئتها الحاضنة، على
تبدلات في البناء الفوقي تطاول الخطاب الإعلامي ليقارب ويتآلف مع بيئة العمل
التنموي (على صعيده الإداري الكلي) الجديدة.