المنشور

وجه آخر للديمقراطية البريطانية

نشرت صحيفة
“الديلي ميل” البريطانية في عددها الصادر في 20 أغسطس/ آب 2013 تحقيقاً
خبرياً لمراسلها في مقر الحكومة دانيل مارتن، جاء فيه أن الأمير تشارلز ولي
عهد بريطانيا زرع شخصاً غامضاً له داخل مكتب رئاسة الوزراء البريطانية
ليعمل بوظيفة السكرتير الخاص لأحد وزراء الحكومة المقربين من رئيس الوزراء
ديفيد كاميرون . والشخص المقصود هو الآنسة لاورا أوسبالدستون ذات ال 28
ربيعاً التي كانت تعمل كباحث أول في القصر الملكي “كلارينس هاوس” في
العاصمة لندن قبل أن تتم إعارتها لمكتب رئيس الوزراء للعمل هناك لمدة سنتين
. وخلال الفترة التي قضتها لاورا بمكتب رئيس الوزراء، تمت ترقيتها لمنصب
السكرتير الخاص لوزير شؤون المجتمع المدني نيك هيرد .


بل إن المراسل كشف
أن الأمير تشارلز زرع ثلاثة من أعوانه، باسم الإعارة، في مكتب رئاسة
الوزراء وإدارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية على مدى السنوات الخمس
الأخيرة .


بعض نواب البرلمان البريطاني الذين أخذتهم الغيرة على
ديمقراطية بلادهم الليبرالية، اتهموا الأمير تشارلز بزرع أعوانه داخل
مؤسسات الدولة من أجل تأمين سلاسة انسياب مصالحه ومصالح عائلته . وذهب
بعضهم في انتقاداته لأمير ويلز، خصوصاً بعد انكشاف أمر لاورا، لحد اتهام
الأمير تشارلز بالتدخل في عمل الحكومة، وأنه يخرق العرف والتقليد السائد في
الحياة السياسية البريطانية، والمتمثل في حياد الأسرة البريطانية المالكة
في ما يتعلق بكل الشؤون السياسية للبلاد . واعتبر النائب عن حزب العمال
البريطاني بول فلين أن الأمير تشارلز بات “يشكل مشروع أزمة دستورية” .


ومع
أن أياً من قصر “كلارينس هاوس” الذي يستخدمه الأمير تشارلز كمقر لإدارة
أعماله واستقبال ضيوفه، ومكتب رئيس الحكومة البريطانية، لم يؤكد واقعة
انتقال لاورا أوسبالدستون بينهما وظيفياً، إلا أن الأخيرة أكدت على صفحتها
في موقع LinedIn أنها بدأت عملها في وظيفة باحث مساعد “بمؤسسة خاصة” في عام
2007 قبل أن تتم ترقيتها إلى وظيفة باحث أول، حيث شاركت في فعاليات خيرية
عدة أقامتها مؤسسة الأمير تشارلز Clarence House، قبل أن تتم إعارتها في
عام 2011 للعمل لمدة عامين كسكرتيرة خاصة بمكتب نيك هيرد الوزير الشديد
القرب من رئيس الحكومة ديفيد كاميرون . وقد تناوب مكتب رئيس الحكومة ومؤسسة
كلارينس هاوس على التقليل من شأن هذه الحادثة، نافيين أن يكون الأمير
تشارلز زرع له ثلاث عيون (ثلاثة جواسيس) داخل أروقة مجلس الوزراء، دافعين
بأن هؤلاء الثلاثة لا يملكون سوى صلات قليلة بالأمير تشارلز .


إلا أن
الديلي ميل كشفت عن أن الأمير تشارلز كان “أعار” رئاسة الحكومة 30 موظفاً
منذ وصول ديفيد كاميرون للحكم، وأن الاثنين عقدا على الأقل سبعة اجتماعات،
فضلاً عن اجتماعات الأمير تشارلز مع عدد كبير من الوزراء الذين يتولون بعض
القضايا التي هي محل مصالح شخصية لدى الأمير، ما طرح أسئلة عن قيام الأمير
بدور اللوبي داخل أروقة الحكم .


منذ ملابسات حادثة مقتل الأميرة ديانا
أو أميرة القلوب كما لُقِّبت استحقاقاً للفتاتها الإنسانية، في 31 أغسطس/
آب 1997 إثر الحادث الذي تعرضت له السيارة التي كانت تقلها وصديقها دودي
الفايد نجل الملياردير المصري محمد الفايد الذي لم يكشف النقاب حتى اليوم
عن الغموض الذي يلفه – منذ تلك الحادثة والصحافة البريطانية تجاهد للحيلولة
دون اهتزاز صورة القصر الملكي في أعين البريطانيين، وتعريض خصوصية
الديمقراطية الليبرالية البريطانية وتقاليدها العريقة، ترتيباً، إلى الخدش .


ولكن
يبدو أن الجري اليومي وراء المصالح الخاصة وتخليص معاملاتها يودي بمن يركب
أمواجها المتموجة إلى السقوط في المحظور، كما حصل ربما مع أمير ويلز الذي
اضطرت الصحافة البريطانية مرة أخرى لإسعافه، بغض طرفها عن متابعة ملابسات
تدخلاته في أعمال مكاتب الوزراء .


في السياق أيضاً . . لكأن هذه الصحافة
لا يكفيها “توريطات” أمير ويلز، ليخرج عليها الموظف السابق لدى “السي آي
إيه” ووكالة الأمن القومي إدوارد سنودين برواياته الفاضحة لجهاز المخابرات
البريطاني في تتبع والتجسس على رسائل البريد الإلكتروني والاتصالات
الهاتفية، والتي تجرأت صحيفة ال”غارديان” ونشرت بعضها، فكان أن جلبت عليها
غضب الأجهزة الأمنية البريطانية التي لم يهدأ لها بال إلا بعد أن قامت
بتدمير الأقراص الصلبة التي احتوت تسريبات سنودين . وكما في حالات سابقة
حين يضيق الخناق عليها تضطر الديمقراطية الليبرالية البريطانية للخروج عن
تقاليد وقارها، فقد فزع المستوى السياسي الأعلى والمستوى التشريعي للجهاز
الأمني عندما اضطر للكشف عن أنياب الوجه الآخر للدولة العميقة الساهدة كما
الأسد في تورية المتنبي الشعرية “إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن
الليث يبتسم”، حيث تدخل نيك كليغ نائب رئيس الوزراء والسير مالكولم ريفكند
رئيس لجنة المخابرات والأمن بمجلس العموم ووزير الدفاع والخارجية السابق
لمؤازرة المخابرات في ملاحقة وإلقاء القبض على ديفيد ميراندا شريك الصحفي
غلن غرينوالد الذي نشر فضائح التجسس البريطانية في ال”غارديان” ومصادرة
متعلقاته الشخصية حين كان يهم بالسفر من برلين إلى ريو دي جانيرو، حيث يقيم
هناك مع زميله الصحفي غرينوالد .


بهذا المعنى فإن بريطانيا ربما تكون
المنافس الأول للولايات المتحدة في استغلال مكافحة الإرهاب لتحقيق أهداف
أجندات خفية، حتى إن أدى ذلك إلى إراقة ماء وجه ديمقراطيتها الليبرالية!