المنشور

تاريخنا مر فوق الرصيف

في مطلع ثمانينات القرن العشرين أصدر نفر من الأدباء العرب في بيروت، يوم كانت بيروت تحتضن المقاومة الفلسطينية مجلة أسموها “الرصيف” . دينامو هذه المجلة كان الشاعر الفلسطيني علي فودة الذي يتذكره من عاش في بيروت في تلك الفترة جالساً في مقهاه الأثير، بشعره الأشعث وبهندامه المهمل .
استوحى أصحاب المجلة عنوانها، على ما يبدو، من رصيف المقهى الذي كانوا يتجمعون فيه في منطقة الطريق الجديدة في بيروت حيث مكتب منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الأخرى، لكن الاسم يشي بما هو أبعد من ذلك، كأن القائمين على المجلة أرادوا تمييز أنفسهم عن الأنماط الأخرى من المجلات، وعن الثقافة المؤسساتية، كأنهم أرادوا القول للآخرين: لكم السكة السالكة ولنا الرصيف منه نراقبكم ونعبر عن احتجاجنا على ما تفعلون لأنه لا يروق لنا .
للوهلة الأولى بدت هذه كما لوكانت ظاهرة عبثية، وتعبيرالعاجز عن الانخراط في الفعل مكتفياً بالتفرج من الرصيف، مستعلياً على الآخرين، لكن يوم اجتاحت دبابات جيش الحرب الصهيوني أراضي لبنان كان علي فودة بين من حملوا السلاح دفاعاً عن بيروت قبل أن يخر شهيداً، ليبرهن على أن الرصيف وأهله هم نبض الشارع .
لعل الهامش مسمى آخر للرصيف .
كل ما يظن أنه غير أساسي، أو أنه ثانوي يوصف ب “الهامشي” . وهنا أيضاً ما أكثر ما يصبح الهامشي أهم مما يعتقد أنه أساسي . النص يبدو مغلقاً وعصياً على الفهم في حالات كثيرة إن لم تقرأ هوامشه . بل إن الهوامش قد تعد بمثابة حيثيات الحكم إذا ما استعرنا تعبيرات القضاة والمحامين، فالحكم لا يستقيم من دون ذكر الحيثيات التي إليها استند، فهو في النهاية خلاصتها .
في قصيدته: “أحد عشر كوكباً في وداع المشهد الأندلسي” اختار محمود درويش الجلوس فوق الرصيف “على ساحة الأقحوانة ليعد الحمامات والفتيات اللواتي تخاطفن ظل الشجيرات فوق الرخام”، تاركات له ورق العمر أصفر، فمر عليه الخريف وهو عنه ساهٍ .
سينتاب الشاعر الندم حين يدرك: “مر كل الخريف، وتاريخنا مر فوق الرصيف ولم أنتبه” .
كان ذلك في وداع المشهد الأندلسي قبل أكثر من خمسة قرون . أما تاريخنا الراهن فإنه يمر ليس فوق الرصيف، إنما عبر هذا الرصيف دون أن ننتبه، لنباغت ذات غفلة أن الحلم كان وهماً، وأن كواسر متوحشة تصادر منا أقمارنا وتلقي بنا في الوحشة .


د . حسن مدن