المنشور

اللعبة المموهة

كنت
أتابع فيلم “اللعبة المموهة” Fair Game الذي يروي جانباً من عملية الفبركة
الاستخباراتية والدبلوماسية والإعلامية الضخمة التي أعدتها وأدارتها
المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أيه” لإلباس العراق تهمة تطوير وحيازة
أسلحة الدمار الشامل – كنت أتابع أحداثه الدرامية والبوليسية المثيرة
بخليط من الانشداد والتحفز الممزوجين بمسحة من الحسرة والالتياع وقد هالني
المدى الذي يمكن أن تصل إليه الدولة العميقة في خيانتها لعملائها المخلصين
وتقديمهم بكل سهولة أضحيةً على مذبح مصالح القوى الحاكمة من وراء الستار في
حال قررت، لسبب ما، إبعادهم عن المشهد والتخلص منهم بإحدى الوسائل غير
المتورعة .
تدور أحداث الفيلم الذي أخرجه للسينما دوغ ليمان وعرض على
شاشات السينما في الولايات المتحدة حول قصة إحدى عميلات السي آي أيه، وهي
فاليري بليم Valerie Plame ، التي أدت دورها نعومى واتس، والتي لا يعرف عن
سرية وظيفتها هذه سوى زوجها جوزف ولسون الذي أدى دوره الممثل شين بن الذي
يعمل سفيرا لبلاده في الغابون، وولديها . وكضابطة في السي آي أيه قامت
بعمليات حساسة، وخطرة أحياناً، خارج الحدود .
ونظراً لما يتمتع به زوجها
من معارف وعلاقات في جمهورية النيجر إبان سنوات خدمته الدبلوماسية هناك،
فقد طلب منه زملاء زوجته في العمل السفر إلى النيجر والاتصال بمعارفه هناك
للتأكد مما إذا كان النظام العراقي برئاسة صدام حسين قد استورد يورانيوم
الكعكة الصفراء Yellowcake uranium من النيجر لاستخدامه في صناعة الأسلحة
النووية . وقد سافر ولسون بالفعل إلى النيجر وأجرى لقاءات مع عدد من معارفه
في السلك الدبلوماسي والسياسي هناك، تأكد على إثرها بأن العراق لم يستورد
هذه المادة من النيجر إطلاقاً .
إلا أن “السي آي أيه” والأجهزة الأمنية
الأمريكية، بالتواطؤ مع البيت الأبيض، اشتركوا جميعاً، كما صار معلوماً
فيما بعد في عملية بالغة السرية، في إخفاء هذه الحقيقة عن الأسرة الدولية
وعن الرأي العام الأمريكي، وعملوا بالتوازي على تلفيق كذبة شراء العراق
ليورانيوم الكعكة الصفراء من النيجر، وترويج وتسويق هذه الكذبة داخل أروقة
الأمم المتحدة، لتتوج هذه الأكذوبة بخطاب الرئيس جورج بوش الابن إلى الأمة
في عام 2003 الذي سوغ فيه العدوان المدبر على العراق بفرية حيازته
اليورانيوم لإنتاج أسلحة الدمار الشامل .
وأمام دهشة وانزعاج ولسون من
هذه الفبركة الرسمية الخطرة، سرعان ما وجد نفسه يخط مقالة يوضح فيها عدم
صحة التقارير التي راحت تبني عليها إدارة بوش مخططها لغزو العراق، وينشرها
في صحيفة “نيويورك تايمز”، ليأتيه الرد الانتقامي سريعاً من مسؤولي البيت
الأبيض بمن فيهم نائب رئيس موظفي البيت الأبيض ومستشار الأمن القومي سكوتر
ليبي، وذلك بتسريب هوية زوجته إلى وسائل الإعلام للطعن في اتهامات الزوج
لإدارة بوش بأنها تتلاعب بالمعلومات لتبرير غزو العراق، ما أدى إلى إقالة
الزوجة ضابطة “السي آي أيه” (فاليري بليم) من وظيفتها وتشويه سمعتها وسمعة
زوجها الدبلوماسي السابق في أعين الرأي العام الأمريكي، قبل أن يتطور الأمر
إلى وصول تهديدات وسباب وشتائم للزوجين عبر الهاتف من أناس مدسوسين، وإلى
توتر العلاقات الزوجية بينهما، قبل أن يعودا ليستجمعا قواهما ويبدآ بشن
حملة واسعة لتعريف الرأي العام بالحقيقة التي أُخفيت عنه . وأخيراً وأمام
لجنة تحقيق في الكونغرس تمكنت بليم من تقديم شهادتها التي أفضت في نهاية
المطاف لإدانة كبير موظفي البيت الأبيض ومستشار الرئيس للأمن القومي سكوتر
ليبي بتضليل العدالة وحكمت عليه بالسجن 30 شهراً، إلا أن الرئيس بوش أوقف
العقوبة!
ومع أن القائمين على فيلم “اللعبة المموهة” لم يتجاوزوا حدود
سقف حرية التعبير الذي توفره ليبرالية مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة،
بإلقائهم نقطة ضوء خافتة على تدبير جرمي بالغ الخطورة أسفر عن ملايين
الضحايا العراقيين وتدمير مقومات الدولة العراقية، إلا أنهم جوبهوا بحملات
إعلامية مسعورة من الكتّاب الموالين لمركز الحكم في “ناشيونال ريفيو”،
و”واشنطن بوست”، ومجلة “تايم” وغيرها . رغم علم هؤلاء بأن من الاستحالة
بمكان أن يتمكن نظام صدام حسين من استيراد اليورانيوم من النيجر لأن جميع
مناجم اليورانيوم في هذا البلد وصناعته الاستخراجية تحتكرها فرنسا بالكامل
من خلال شركتها أريفا Areva حتى العام 2006 عندما تم السماح جزئياً لبعض
الشركات الأجنبية بالاستثمار في هذا النشاط . مثلما يعلمون أيضاً أن
المخابرات البريطانية بتواطؤ رئيس الوزراء البريطاني آنذاك توني بلير، هي
التي نسجت قصة يورانيوم النيجر .
على أية حال، لم تكن تلك سوى كرة الثلج
الصغيرة التي تدحرجت لتميط اللثام عن أكبر كذبة في تاريخ العلاقات الدولية
المعاصر، والتي تفوق فضيحتها فضحية ووتر جيت التي لولا صراع اللحظة بين
مصالح مراكز القوى الحاكمة في واشطن لما كُشفت . والمعيب، المخيف في آن، أن
جورج بوش وتوني بلير كذبا وشنّا بالتضامن حرباً إجرامية ضد العراق (بدعوى
نزع أسلحة الدمار الشامل)، وتمكنا من الإفلات من العقاب . تماماً مثلما
أفلت شارون من محاكمة دولية على جرائمه . كانت الإقالة Impeachment هي
المآل المحتم لهذه الفضيحة، ولكن تشاء الديمقراطية الليبرالية الأمريكية
والبريطانية أن تشكل بوليصة تأمين وتحصين لرجال الحكم عوضاً عن أداء
وظيفتها الرقابية والحسابية!





د . محمد الصياد – See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/3d0e5a35-5758-41ff-8106-2ed31550f4a0#sthash.MaedXRWs.dpuf