المنشور

بؤرة توتر في جنوب آسيا

تاريخياً
وتقليدياً كان الجمهوريون في الولايات المتحدة الأمريكية “كبار فرسان”
الحرب الباردة التي تخوضها بلادهم دون انقطاع ضد روسيا (وقبلها ضد الاتحاد
السوفييتي المنهار) وضد الصين . وكان الديمقراطيون يقفون في الخط الثاني من
تلك الرؤوس الحامية النازعة إلى التسخين الدائم للمجابهة والصدام مع هاتين
الدولتين المنافستين لواشنطن على مناطق النفوذ والمصالح في العالم .
ولكن،
وعلى غير المعتاد، فإن الذي يعمل هذه الأيام على استحضار أجواء الحرب
الباردة ويتصدى لمهمة التصعيد الإعلامي والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي ضد
روسيا عبر الدولة التي كانت يوماً توأمتها فأضحت اليوم عدوتها، أي
أوكرانيا، ويقوم بالتصعيد في الآن معاً – وإن بوتيرة أخفض حتى الآن – ضد
الصين عبر اتحاد دول جنوب شرق آسيا الذي يضم عشر دول هي إندونيسيا،
ماليزيا، تايلاند، سنغافورة، الفلبين، بروناي، فيتنام، لاوس، بورما،
وكمبوديا، وكذلك عبر اليابان وكوريا الجنوبية اللتين لاتزال تحتل جزءاً من
أراضيهما في صورة قواعد عسكرية، تشكّل جبهة حرب متقدمة للجيش الأمريكي في
قارة آسيا – هما الرئيس الأمريكي باراك أوباما وحزبه الديمقراطي الحاكم .
فمع
تصاعد الطاقات الاقتصادية والعسكرية للصين الشعبية واتساع نفوذها بشكل
طاغٍ في العالم بصفة عامة وفي القارة الآسيوية بصفة خاصة، قررت الطبقة
السياسية للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي تصادف أن يكون على
رأسها هذه المرة الحزب الديمقراطي، أن ترمي، على ما هو واضح، بكل ثقل
اهتمامها نحو جنوب القارة الآسيوية من دون التفريط في نفوذها ووجودها
العسكري والسياسي والاقتصادي في بقية مناطق العالم، وذلك لمواجهة المد
الصيني في المنطقة على وجه التحديد .
ويشارك في هذه الخطة الهادفة لكبح
اندفاع وتقدم الصين في الإقليم وفي المناطق الآسيوية المجاورة، عدد من
الأجهزة العسكرية والأمنية وكذلك وسائط الميديا الأمريكية التي تسلّمت
وفهمت مضمون رسالة “المؤسسة”، وراحت تمارس دورها على هذا الصعيد .
الإعلام
الأمريكي، ومنه صحيفة “وول ستريت جورنال” كمثال غير حصري، يحرض دول آسيان
في أحد مقالات حملته على الصين، “للوقوف صفاً واحداً ضد الصين لإجبارها على
توقيع “مدونة السلوك” (Code of Conduct) “التي كانت قد أعدتها من أجل وضع
حد لممارسات الصين الأحادية في بحر الصين الجنوبي”، وذلك في أعقاب
الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها فيتنام ضد المصالح الصينية في فيتنام إثر
قيام الصين بتثبيت حفار نفطي ضخم في المياه المتنازع عليها مع فيتنام . بل
إن الإدارة الأمريكية نفسها تدخلت عنوة في هذا الإشكال، وضغطت على زعماء
الدول العشر الأعضاء في “آسيان” الذين اجتمعوا في ميانمار في شهر مايو/
أيار الماضي، من أجل إقرار تلك المدونة .
في معرض تحريضها تُذكّر وسائل
الإعلام الأمريكية بقيام السفن الصينية في عام 2012 بتسييج منطقة بمحاذاة
الساحل الفلبيني غنية بالأسماك، وبقيام الصين بتعزيز قدراتها العسكرية
بصورة سريعة لاسيما قواتها البحرية، وتكرار استعراضها عضلاتها البحرية في
المنطقة . وينسب بعض الإعلام الأمريكي المواظب على المتابعة الحثيثة للشأن
الصيني، إلى “محللين غربيين”، اعتقادهم بأن قيام الصين بنصب حفار النفط
الضخم في بحر الصين الجنوبي، والذي أثار غضب فيتنام، هو بمثابة رسالة صينية
إلى الولايات المتحدة مفادها أن الصين لن تسمح لأحد بالتطاول على حقوقها
البحرية وعلى مصالحها الاقتصادية في بحر الصين الجنوبي وفي منطقة جنوب شرق
آسيا . وهذا يعني أن الأمريكيين فهموا الرسالة الصينية المعنونة لهم
ولطموحاتهم الجديدة في الحوض الجنوب شرق آسيوي .
بهذا المعنى، فإن
الطرفين المتجابهين، الولايات المتحدة والصين، يعلمان تماماً أن المعركة
الأصلية هي معركة بينهما حتى وإن قامت الفلبين برفع دعوى قضائية ضد الصين
في محكمة التحكيم التابعة للأمم المتحدة بشأن حقوقها في بحر الصين الجنوبي،
والتي لم تعرها الصين أدنى اهتمام، أو مطالبة تجمع “آسيان” لإبرام اتفاق
“مدونة سلوك” مع الصين لتنظيم ممارسات الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي
وفقاً للقانون الدولي للبحار . وبهذا الصدد، لا تبدو خطة التصعيد الأمريكية
– بواسطة الغير – مع الصين في التنافس على مواقع النفوذ في حوض بحر الصين
الجنوبي، من خلال العمل في الخلف بدفع الآسيويين لاظهار الصين وكأنها دولة
متمردة على القانون الدولي، ومحاولة تشكيل حلف في المنطقة ضد الصين – سهلة
التطبيق في ضوء اتخاذ كمبوديا وتايلاند وسنغافورة جانب الصين، وخلو البيان
الذي أصدرته “آسيان” في العاشر من مايو/ أيار الماضي من أي اشارة لا إلى
الصين ولا إلى مدونة السلوك التي تضغط واشنطن على “آسيان” لإجبار الصين على
توقيعها، إذ اكتفى البيان بالإعراب عن القلق عن حوادث الصدام في بحر الصين
الجنوبي، في إشارة غير مباشرة إلى حادثة الحفار الصيني وردة الفعل
الفيتنامية العنيفة عليه .
على أن اليابان التي يقودها اليوم رئيس
الوزراء شينزو آبي الذي يعمل صراحةً على بعث الروح القومية اليابانية،
وإعادة النظر في عقيدتها العسكرية لما بعد هزيمتها في الحرب العالمية
الثانية، ويسعى حثيثاً لتوسيع انتشارها العسكري خارج الحدود، تبقى محور
التعويل الأمريكي على بناء سياسة مجابهة قوية ضد الصين وطموحاتها في بحر
الصين الجنوبي والشرقي .
والصين التي استشعرت تجدد هذا الانبعاث للتحدي
والطموحات اليابانية، لم تستطع كتمان غيظها من مساندة حكومة آبي لواشنطن
التي قررت نقل جزء كبير من ثقلها العسكري والسياسي وحركتها الدبلوماسية
باتجاه منطقة جنوب شرق آسيا، راحت تسرع الخطى للتصدي لهذا التحدي بأشكال
استعراضية عسكرية وسياسية ودبلوماسية مختلفة . وتصب زيارة الرئيس الصيني شي
جين بينغ إلى سيئول الجمعة 4 يوليو/تموز الماضي في هذا الإطار، حيث يجمع
البلَدان موقفهما التاريخي من طوكيو، إذ تعرضا للغزو والاحتلال الياباني
إبان الحكم الفاشي في اليابان في أربعينات القرن الماضي (احتلت اليابان
كوريا وضمتها واحتلت نصف أراضي الصين القارية) . . مثلما تصب المفردات
القاسية التي استخدمها الرئيس الصيني ضد اليابان في خطابه أمام الجمعية
الوطنية الكورية الجنوبية خلال تلك الزيارة، حيث وصف سياسات اليابان تجاه
بلاده وتجاه سيئول ب”الحرب البربرية والعدوانية” . – See more at:
http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/570d72f3-d5aa-4280-b873-fcc4a33a823c#sthash.HgXIpm5t.dpuf