المنشور

زمنهم المضيء وزمننا الكالح

يحز في النفس أن نطالع انخراط مثقفين وناشطين سياسيين آتين من منابع فكرية حديثة في سجالات، سواء عبر الصحافة أو التلفزة أو وسائل التواصل الاجتماعي، لا تنطلق من المرجعيات الفكرية الجامعة ذات البعد الوطني والإنساني الشامل، وإنما من انتماءات ضيقة، مذهبية تارة، وطائفية تارة أخرى، وقبلية أو إثنية تارة ثالثة .


ولن ننجو من السؤال الموجع: أين ذهبت مرجعيات هؤلاء، وكيف ارتدوا في غمضة عين إلى بيئاتهم المحدودة الضيقة التي نشأوا فيها أول مرة، وأين ذهبت الكتب “التقدمية” التي قرأوها والأفكار والشعارات الوطنية التي أفنوا سنوات من أعمارهم وهم يلهجون بها، فعادوا إلى نقطة الصفر، وربما إلى ما دونها، لأن أخطر ما في المثقفين هي قدراتهم في التبرير، لتوفرهم على ملكات الكلام والكتابة، التي لا تتوفر عادة لعامة الناس، الذين هم أكثر اتساقاً وفطرية مع أنفسهم، وأكثر حصانة بوجه التقلبات الفكرية والسياسية، التي تنقل المثقف من أقصى خانة إلى أقصى خانة نقيضة لها .


يقول عبدالرحمن الكواكبي “إن الاستبداد لغة هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة” . وبهذا التعريف فإن الكواكبي لا يشخّص الاستبداد بوصفه ظاهرة سياسية فحسب، وإنما بوصفه ظاهرة عامة واسعة تغطي مساحة بمساحة المجتمع كله، ناهيك عن الفكر نفسه بوصفه الفضاء الأوسع والأكثر تعقيداً في الآن ذاته لتجلي القناعات .
وعلى صلة بحديثنا أمس عن ضرورة الإصلاح الديني بوصفه عاصماً بوجه موجات التطرف الدموية الداعشية وغير الداعشية وقعت عيني على مقالة للدكتور طه حسين نشرها في عام ،1910 في مجلة “الجريدة”، وإذا علمنا أن طه حسين ولد في عام ،1898 فإن عمره لحظة كتابته ذاك المقال بالكاد يتجاوز العشرين عاماً، ولكنه في هذه السنة الغضة كان أبعد بصيرة من “جهابذة” التنظير الذين يسممون فضاءنا اليوم .


عنوان المقال المذكور هو: “ليس الإيمان ملكاً لأحد”، وفيه يذهب العميد إلى “أن الإسلام لا يعرف لأحد من الناس حق السيطرة على العقيدة والهيمنة على القلوب، وإنما ذلك حق الله وحده”، و”لا يصح أن يحال بين الناس والدين بأسوار من الوهم والخرافات، بل يجب أن يظل كعهده أيام النبي لا زيغ فيه ولا عوج” .
عدتُ لطه حسين والكواكبي لأقول إن زمنهما كان أكثر تقدمية من زمننا الكالح .


د . حسن مدن