المنشور

ما بعد الانكسار

 

 



وما نيـــلُ المطالب بالتمــني        ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا
وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ       إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا


 

 

 

هذا هو لسان حال أمير الشعراء أحمد شوقي، وقد كان هذا هو ديدن جموع المثقفين الذين كانوا يوماً يجوبون المدن والقرى والنجوع والحارات المتوزعة على خريطة عالمنا العربي الكبير، مدفوعين بإقبال استثنائي على الحياة الحرة الكريمة والعزيزة، وبآمال عريضة في وطن عربي حر موحد ومستقل ومنصرف بكليته نحو البناء والتعمير والنهوض العلمي والثقافي .

كانت تلك أيام طولها عقد كامل ويزيد، هو عقد الستينات تخصيصاً من القرن الماضي . يومها كان المثقفون العرب هم ضمير الأمة وكانوا مرجعيتها المناقبية . فبفضلهم كانت للكتاب قيمة “قدسية” خاصة لدى عموم الناس، نعم عموم الناس، من طلاب الجامعات والمدارس وعمال المصانع وسائر الموظفين العموميين، وليس فقط لدى النخب المثقفة، كما انتهى إليه حال الكتاب بعد غروب أيامه الزاهية لذلك العقد الفريد .

كانت الهالة والمهابة اللتان يتمتع بهما مثقف تلك الأيام لا تضاهيهما سوى هالة ومهابة المعلم المدرسي لتلك الأيام الخوالي، ولكأن “حصانة” مجتمعية من نوع ما كانت تحيطهما .

ولربما كان الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لتألق الانتلجنسيا العربية في تلك الأيام، هو ارتباطها ارتباطاً وثيقاً بنمط إنتاجي كان يسم كافة مناحي الحياة العربية ويشكل جوهر عملية إعادة الإنتاج الكلية التي تطبع الموقف العام لكل فرد تقريباً من أفراد المجتمعات العربية، بما فيها مجتمعات بلدان الخليج العربي قبل الطفرة النفطية الأولى عام ،1973 وذلك برسم الازدهار الثقافي الذي عاشته مجتمعاتها في تلك الفترة، حيث كانت للكتاب قيمة وتقدير خاص لدى كل المتعطشين للاستزادة من كل النتاجات الثقافية والفكرية والفنية والموسيقية التي كانت تترى تباعاً في بلدان المركز الحضري العربي، لاسيما القاهرة وبيروت، وكانت الأندية الثقافية تشكل جزءاً عضوياً من المكونات المؤسسية لنمط حياة مجتمعات النفط على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، حين كانت الأنشطة المهنية والحرفية والصناعية التقليدية ما زالت محتفظة بمكانتها في الدولاب الاقتصادي، وبقدرتها على مغالبة التيار الجارف للصناعة النفطية الصاعدة بدفع من قفزات أسعار النفط في الأسواق العالمية .

اليوم أصبحت صورة المثقفين العرب أو الانتلجنسيا العربية، مقلوبة رأساً على عقب . فما كادت هبات ما سمي ب “الربيع العربي” تُزيح الأردية التثاقفية التي كانوا يتلفعون بها حتى انكشفت هشاشة بنيتهم التحتية (Infrastructure)، وهي هنا التكوينات الفكرية والابستمولوجية والنفسية والمعنوية . حيث ظهروا خائري القوى ومسلوبي إرادة الموقف أمام إغراءات وإغواءات الانحيازات والحيازات التي هي طبقية مصلحية في الجوهر وإن تقافز الساقطون في حبائلها، للالتماس من الأعذار والحجج والمسوغات في السريع العاجل ما يبعدهم أو هكذا يتراءى لهم عن شبهة السقوط . .حتى وإن اضطرتهم ظروف هذا السقوط وضغوطه للدخول طرفاً في لعبة خلط الأوراق المفضية حكماً للانتقالة المأساوية من النقيض إلى النقيض . من موقع التنوير النهضوي إلى مواقع التخندق جنبا إلى جنب مع القوى الاجتماعية الحابسة على مدى التاريخ، بماضويتها، لديناميات التقدم والتحديث، ذوداً بكل تأكيد عن مواقعها ومصالحها .

ولأن المرحلة هي مرحلة قحط وجدب (نقيض الخصب) وكساد فكري، فقد كان محتماً أن تُخلي زمرة المفكرين والمبدعين المتضائلة والمتناثرة أعدادهم على رقعة ضيقة من الجغرافيا الثقافية العربية، أن تخلي الساحة الثقافية العربية بالكامل لجحافل لا تعرف للثقافة من طريق سوى طريق الإعلام الذي صار اليوم العنوان الأبرز للثقافة العربية .

وبما أن حرب الطوائف قد نجحت بامتياز في اختزال الثقافة في الإعلام، فلقد أضحت الثقافة هي الإعلام والإعلام هو الثقافة (في العالم العربي قصراً)، بعد اكتساح الإعلام لكافة عوالم الثقافة واجتذابه الكتلة الأعظم ممن يعدون على الوسط الثقافي العربي، أو بصورة أدق على الوسط “الثقافي البراغماتي” .

وبالقياس الامبريقي (الرياضي)، فإنه حين أضحت صناعة الإعلام العربية المُشَغِّل المحتكر للنخبة الإعلامية (المثقفة)، وحين انتهى الحال بالأخيرة لأن تصبح بدورها تحت إمرة أمراء حرب الطوائف المندلعة راهناً، فقد شاء “القدر الامبريقي” (الذي أملته قوانين التطور الموضوعية والذاتية بكل تأكيد) لهذه الانتلجنسيا المتحولة، أن تعود لتمارس دورها المرجعي مرة أخرى، مع الفارق أنها تؤديها هذه المرة بوظيفة جديدة هي بذر الشقاق المجتمعي وتخريب نسيجه، وضرب ثقة ومعنويات المجتمعات العربية وجعلهما في أدنى مراتبهما .

فشتان ما بين الأمس واليوم، بين وظيفة مرجعية في غاية النبل والوفاء والعطاء، وأخرى مضادة لها في القوة والاتجاه معاً .

ومع ذلك ما زال الأمل معقوداً على أولئك المثقفين العضويين الذين لم تنطلِ عليهم الخزعبلات البائسة لقارعي طبول العصبيات التفتيتية، ولم ينخدعوا بإغواءاتها وإغراءاتها الماكرة، بأن ينهضوا ويرفعوا أصواتهم ذوداً عن مصالح الكيان العربي الذي أراد له يوماً صاحب المشروع الحضاري الطموح جمال عبدالناصر، أن يضعهم بين مصاف الدول والأمم الشامخة بإنجازاتها التنموية والعلمية والتربوية والثقافية .

نعم لقد آن الأوان لوضع حد لذاك الانكسار بنفض الغبار عن مكنوننا الثقافي الإيجابي الأصيل واقتفاء حكمة أمير الشعراء شوقي “وما نيل المطالب بالتمني . . .” .