المنشور

اللامساواة أخطر من مخاطر تغير المناخ


 
ما من أجراس تُقرع اليوم بوتيرة وضجيج أكثر من أجراس إنذارات الكوارث المحدقة بالعالم جراء التهديد الذي تشكله ظاهرة تغير المناخ (Climate Change)، رغم المزاحمة التي يلقاها هذا الموضوع اليوم، مؤقتاً، من جانب قضية الإرهاب التي فرضت نفسها عنوة على الأجندة العالمية بفعل “الثورة الإرهابية الداعشية” .

إلا أن الفرنسي ثوماس بيكيتي (Thomas Piketty) نجح من خلال مؤلفه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” (Capital in the Twenty-First Century)، خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، في استثارة وعي النخبة الاقتصادية من حملة نوبل وإثارة اهتمامهم واهتمام أوساط المال من البليونيرات وأوساط صناع القرار من وزن وزير الخزانة جاك لو ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين جاسون فورمان، بشأن خطورة اتساع فجوة اللامساواة في المجتمعات الغربية والمجتمعات العالمية بصفة عامة .

فرغم قوة حركة “احتلوا وول ستريت” الاحتجاجية الموجهة في الأساس لقرع جرس الإنذار من مغبة اتساع الفجوة بين الفقر والغنى الفاحش، ورغم صدور تحذيرات بشأن هذا الموضوع من أصوات عالمية معروفة مثل بابا الفاتيكان، إلا أن كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”، يبدو أنه الأقوى أثراً حتى الآن .  فبعد بضعة أيام فقط من صدوره اعتُبر الكتاب رقماً واحداً في سلسلة الكتب الأكثر مبيعاً على قائمة أمازون، إذ بيعت منه أكثر من مئتي ألف نسخة، وهو ما لم يحدث في تاريخ دار نشر جامعة هارفارد للطباعة التي طبعت الكتاب . كما وصفه الاقتصادي “النوبلي” بول كروجمان بأنه كتاب العشرية الثانية للقرن الحادي والعشرين في مجال الاقتصاد .

الكتاب يحلل سجلات ضرائب لمئات السنين من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا واليابان لإثبات شيء بسيط وهو أن الأغنياء يزدادون غنى وأن ثرواتهم لا تتراجع وإنما تتصاعد، وأن نسبة ال 1% من الأمريكيين الذين يستحوذون على معظم الثروة تقترب من نسبة ال 1% من أثرياء فرنسا ما قبل الثورة الفرنسية (1789)، وهو ما يضع الولايات المتحدة في نفس الوضع الذي كانت عليه فرنسا عشية الثورة من حيث حدة الاستقطاب الاجتماعي، التي أدت إلى الهجمات الدموية على نخبة ال 1% الفرنسية آنذاك . ويحمل بيكيتي جشع رأس المال، مسؤولية هذا الكابوس .

اعتباراً من أواخر تسعينات القرن الماضي بدأ بيكيتي فحص وتحليل سجلات الضرائب في فرنسا منذ ما بعد الثورة الفرنسية قبل أن يتحول إلى دراسة الظاهرة عالمياً، حيث درس وحلل على مدار خمسة عشر عاماً بيانات 30 دولة . غير أن تركيزه انصب على سياسة الضرائب في الولايات المتحدة على مدار السنوات المئة الأخيرة . . منذ أن وضع الكونغرس ضريبة الدخل في عام 1913 “لموازنة ساحة اللعب الاقتصادية” من خلال نظام الضريبة المتدرجة التي ترتفع مع ارتفاع مستوى الدخل (الثروة) . ويتوقف بيكيتي عند السنوات الثلاثين الأخيرة باعتبارها سنوات الخفض اللامعقول للضرائب المفروضة على أصحاب المليارات، التي نتج عنها ارتفاع مستوى الغنى الفاحش في حين أصبح أصحاب الدخول الثابتة المعتمدين على مرتباتهم، أكثر فقراً . فكان أن تدهور حال الطبقة الوسطى التي كانت أنعشتها سياسات “الصفقة الجديدة (New Deal) لثلاثينات القرن الماضي التي حتمتها أزمة الكساد العظيم (1929-1934) ومشروع مارشال لما بعد الحرب العالمية الثانية .
ثم زادت فجوة اللامساواة مع اتساع الفارق بين معدل العائد على رأس المال ومعدل النمو السنوي لإجمالي الناتج المحلي، حيث كانت مؤشرات البورصة تحقق أرقاماً قياسية في حين كانت أجور العاملين مجمدة . وللتغلب على هذه المعضلة، يقترح بيكيتي بأن يفصح مواطنو كافة البلدان عن ثرواتهم ومن ثم تفرض ضريبة دخل عليها لإعادة تدويرها اقتصادياً واجتماعياً لتعديل الاختلالات الخطيرة في مستويات الدخل . كما يقترح توسيع الدائرة الاجتماعية للتمكين من الوصول إلى التعليم، وزيادة الضريبة على أرباح رأس المال، وسد “ثقوب” التهرب الضريبي .