المنشور

التمييز العنصري وصناعة الفقر

 


من أعظم المقولات المأثورة للإمام علي (ع) وستظل نابضةً بحيويتها ما بقي الظلم الاجتماعي والطبقي قائماً: «ما وجدت نعمةً موفورةً إلا وإلى جانبها حقٌّ مضيّع». ولعلنا يمكننا القول في عصرنا الراهن على القياس: إن أغلب الصراعات الاجتماعية الداخلية، كما الخارجية، إنما هي من جراء نعم موفورة وراءها حقوق طال تضييعها، ولطالما تم إلباسها أشكالاً من التمييز العنصري سواء أكانت عرقية أم قبلية أم قومية أم دينية أم طائفية أم مذهبية.
 
لقد بات التمييز العنصري بأشكاله المذكورة وسيلة ونتيجة في الوقت ذاته، للإفقار والاضطهاد الاجتماعي، فهو وسيلةٌ للمستغِلين من أرباب النعم والثروات الموفورة لتحريف جوهر الصراع الطبقي وتزييف وعي ضحاياه بزجهم في أتون صراعات طائفية عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فإن كانت طائفية أوهمَ النظام القائم في مجتمع الصراع بين طائفتين بأنه يدافع عن مصالح إحداهما وألبها ضد الأخرى، والحال مماثل إذا ما كانت الصراعات إثنية أو قومية أو قبلية أو مذهبية، والهدف واحد هو طمس حقيقة الصراع القائم.
 
يشير الأكاديمي البريطاني في جامعة هارفارد روجر أوين إلى ظاهرة التمييز العنصري في الولايات المتحدة فيقول: «إن العبودية تتسبب بانقسام في مجتمع، يُعامل فيه الأشخاص على أنهم سود بالكامل إذا لم يكونوا بيضاً بالكامل». ويضيف: «ومن ثم هناك روابط ثابتة بين البشرة السوداء والفقر، وبين البشرة السوداء والتربية السيئة، وفي بعض الأحياء الأكثر فقراً في المدن الكبرى بين البشرة السوداء والبطالة بين الشباب ونسبة الجرائم، مع العلم أن هذا الرابط لايزال يقاوم التغيير لأسباب عدة».
 
بيد أن هذه الوضعية السائدة في المجتمع الأميركي الذي يُنظر إليه كنموذج للديمقراطية والتسامح والمواطنة المتساوية وتساوي الفرص، ومن ثمَ يصبح ملاذاً افتراضياً جاذباً للمضطهدين في العالم، إنما يخفي وراءه تلك الحقائق المرة على أرض الواقع، ويمكنك بكل سهولة أن تجد ما يحاكيه أو يكاد يطابقه في عددٍ من مجتمعاتنا العربية بل والخليجية، التي تمكّنت بعض الأنظمة فيها من إجهاض الربيع العربي محققةً بذلك نجاحات باهرة لتزييف جوهر الصراعات القائمة، وتمكّنت من تشتيت الإصطفافات السياسية الأصلية المفترض أن تقوم عليها، ومن ثم يمكنك بكل سهولة أن تجد على قياس روجر أوين في النموذج الأميركي روابط بين الفقر والطائفة، وبين الطائفة والبطالة، وبين الشباب والبطالة. وحين يسخر أوين غامزاً «بأن البعض يفترض أي تجمع للسود سيشارك فيه مشاغبون يسعون إلى سلب الممتلكات وحرقها»، فإنك ستشعر كأنه يتحدّث عيانياً عن واحد من تلك المجتمعات العربية. («الحياة» 3/12/ 2014).
 
وبتلك التناقضات التي ما انفك يعج بها المجتمع الأميركي، يتهافت المفهوم البراق الذي أطلقه عالم السياسة جوزيف ناي «القوة الناعمة»، والمتمثل في القيم والثقافة الأميركية الجذابة التي يمكن للولايات المتحدة توظيفها لحمل الشعوب الأخرى على تبنيها كمصدر إعجاب وإلهام.
 
على أن الحقائق التاريخية المعاصرة الثابتة أن سياسات الولايات المتحدة لم تكن مصدر إلهامٍ لشعوب العالم قط، وخصوصاً العالم الثالث منه، وإن بدا بريق الحياة فيها يجذب مجاميع من الباحثين عن الرزق أو عن فرص لتطوير نبوغهم العلمي أو إبداعاتهم في مجالات مختلفة ينعدم وجودها في أوطانهم التي تحكمها الأنظمة الاستبدادية المتسلطة التي تحظى بدعم الولايات المتحدة نفسها، وغضها عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
 
وقد كان عالم السياسة روبرت كاغان واحداً ممن تصدّوا لتفنيد مقولة جوزيف ناي حول مفهوم القوة الناعمة كبديل عن القوة العسكرية لتلميع وجه الامبريالية الأميركية القبيح، مذكّراً ومعدّداً لمظاهر عديدة لهذا القُبح كما تجلت في سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية، ومن ذلك قمع حركات الحقوق المدنية للسود في الخمسينيات والستينيات، وتورط الـ «سي آي أيه» في تدبير وتمويل عدد من الانقلابات العسكرية على الحكومات الشرعية، منها حكومة مصدق في إيران، والفظاعات الوحشية التي ارتكبها الجيش الأميركي بحق الشعب الفيتنامي، وغزو جمهورية الدومينكان في عهد جونسون العام 1965، والمظاهرات الطلابية العارمة التي شهدتها فرنسا وأوروبا ومناطق عديدة من العالم والتي لم تخلُ جميعها من التنديد الشديد بالسياسات الأميركية.
 
وحسب تعبير كاغان نفسه، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصبحت من الستينيات حتى نهاية الحرب الباردة، منبراً للتعبير الدائم عن معاداة الولايات المتحدة، وكما نعلم فمن على هذا المنبر صدر قرار تاريخي العام 1957 باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية خلال العصر الذهبي لتحالف دول كتلة عدم الانحياز وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية في مواجهة سياسات الإستقواء والهيمنة على بلدان هذا العالم من قِبل الغرب وأميركا، وهو القرار الذي أزعج حينها «إسرائيل» والحركة الصهيونية أشد الإزعاج، وظلتا تتحينان الفرص بشتى السُبل لحمل المنظمة الأممية على إلغائه. وكان لهما ما أرادتا بدعم ومساندة من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين غداة انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
 
صحيفة الوسط 14 أبريل 2015