المنشور

عودة النزعة العسكرية لألمانيا واليابان

بعد
مرور 100 سنة على اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1919)،  ومرور 75 سنة
على اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، تعود نزعة الهيمنة
والتوسع من جديد إلى ألمانيا التي أشعلت هاتين الحربين العالميتين
المدمرتين.


في عام 2013 عكف أكثر من 50 من كبار الساسة والصحفيين والأكاديميين
والعسكريين وممثلي قطاعات المال والأعمال الألمان، على وضع استراتيجية
جديدة لألمانيا في مجال السياسة الخارجية تحت إشراف خزان الأفكار الحكومي
«فاونديشن فور ساينس أند بوليتكس»
(Stiftung Wissenschaft und Polittiks)، و«جيرمان مارشال فند» (German
Marshal Fund).وقد اعتبرت الاستراتيجية أن ألمانيا «دولة تجارة وتصدير»
تعتمد أكثر من أية دولة أخرى في العالم على «الطلب من جانب الأسواق
العالمية وعلى حرية النفاذ والوصول إلى خطوط التجارة والمواد الخام». كما
اعتبرت الاستراتيجية أن ألمانيا يجب أن تلعب «دوراً قيادياً» على المستوى
الدولي من خلال حلف الناتو، وتوظيف نفوذها المتنامي في «التوجه الجديد
للحلف».


وتأكيداً لجدّية تفعيل بنود الاستراتيجية، فقد أدلى فرانك والتر
ستينمير الذي تبوأ منصب وزير الخارجية ممثلاً للحزب الديمقراطي الاجتماعي
في الحكومة الائتلافية برئاسة أنجيلا ميركل خلال الفترة من 2005-2009 (عاد
لتسلم هذا المنصب في ديسمبر/كانون الأول 2013 بعد الانتخابات التي أسفرت عن
حكومة ائتلاف موسعة)، ومعه وزير الدفاع فون دير ليين، حينها بتصريحٍ لا
تشوبه شائبة حول إعادة تدشين نزعة الهيمنة والتوسع الألمانية من جديد إلى
السياسة الخارجية الألمانية، مفاده «أن مرحلة تقييد وكبح العسكرية
الألمانية قد انتهت، وأن ألمانيا من العِظَم بحيث لا يمكن قبول مقاربتها
للسياسات الدولية من على هامش الآخرين، وأن عليها أن تكون جاهزة للتدخل
بشكل كبير وقويّ في السياسة الخارجية والأمنية الدولية».وهذا ما فعلته
ألمانيا بالتنسيق مع واشنطن في حشد وتنظيم أعضاء الميليشيات الفاشية في
الغرب الأوكراني الذين كانوا بقيادة ستيبان بانديرا، وناصروا النازيين
الذين احتلوا بلادهم أيام الحرب العالمية الثانية. بالتوازي مع إعادة
انبعاث هذه النزعة، بدأ الاستغال على إعادة تشكيل الرأي العام.


وقد تم تكريس أهم برنامجين إخباريين في التلفزيون الرسمي وهما
«tagesthemen» و«heute journal» لبث الدعاية لهذه الاتجاهات الجديدة في
السياسة الخارجية الألمانية، حيث تداوم وزارة الخارجية الألمانية على نشر
بيانات تحت عنوان «مصير ألمانيا هو أن تقود أوروبا لقيادة العالم». ويتناوب
وزير الدفاع فون دير ليين والرئيس يواخيم غاك، على تكثيف حملاتهما
الهجومية ضد روسيا، في حين يقوم الصحفيون الألمان الذين يملكون علاقات
متينة مع مؤسسات أمريكية نافذة، أمثال جوزيف جوفي وجواكيم بتنر (من صحيفة
دي تسايت Die Zeit أي «الوقت» الأسبوعية المحسوبة على الحزب الاجتماعي
الديمقراطي)، وستيفن كورنيليوس (مجلة süddeutsche zeitung المحسوبة على
التيار الليبرالي)، ونيكولاس بوسي وكلاوس ديتر فرنكينبيرغر (صحيفة
فرانكفورتر الجماينة تسايتونج)، ونيكولاس بلوم (دير شبيغل)، ودومينيك
جونسون وغيرهم، بمهاجمة روسيا من دون كلّ أو ملل.


كما أقحِمت الجامعات في هذه الموجة الصاعدة من إعادة بعث العسكرة الألمانية، فنُحّي التاريخ جانباً بعد خلطه عمداً بالبروباغاندا.


وصار من الصعب على الأكاديميين الموضوعيين معاكسة هذا التيار، بعد أن
رأوا بأم أعينهم ما تعرّض له عالم التاريخ الألماني فريتز فيتشر المتوفّى
عام 1999 من هجماتٍ شنيعةٍ على ما كان ذهب إليه في ستينات القرن الماضي من
أن نفس الأهداف العدوانية التي حرّكت الإمبراطورية الألمانية لشن الحرب
العالمية الأولى تحقيقاً لها، هي نفس الأهداف العدوانية التي وضعها هتلر
لشن الحرب العالمية الثانية.


وهو ما يفهم منه أن التدخل الألماني المتغول في أوكرانيا بالتعاون مع
واشنطن، لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج لنفس السياسات السابقة للرايخ الثالث
وما قبله .


وفي شهر مارس/آذار الماضي أقرت الحكومة الألمانية موازنة عام 2016
والتي تضمّنت خطة لتصعيد مخصصات الإنفاق العسكري حتى عام 2019 بواقع 8
مليار يورو، أكثر مما كان قد خطط له للسنوات الأربع المقبلة، بزيادة نسبتها
أكثر من 6.2٪، ما سيرفع الإنفاق العسكري تراكمياً إلى 35 مليار يورو بحلول
عام 2019، في إشارة إضافية إلى عودة العسكرة الألمانية.


اليابان حليفة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، هي الأخرى تجتاحها
حمّى العودة لماضيها العسكرتاري في ظل قيادة رئيس الوزراء شينزو آبي الذي
يشرف اليوم بنفسه على عملية تغيير جذرية للسياسة الخارجية لليابان، بما
يشمل ذلك إعادة النظر في المادة التاسعة من الدستور الياباني التي وضعتها
واشنطن بعد استسلام اليابان بهدف تقييد العسكرة العدوانية اليابانية.


ويطمح شينزو آبي لإطلاق يد اليابان العسكرية في الحروب التي يشنها حلفاؤها في الحلف الأطلسي وتعظيم قدرات بلاده العسكرية.


وهو لا يبالي بتاريخ اليابان العدواني في الحرب العالمية الثانية والجرائم التي ارتكبتها في بلدان جنوب شرق آسيا التي احتلتها.


بل إنه يرفض بشدة الاعتراف بجسامة تلك الآثام، وهو مستعدٌٌ للذهاب
أكثر من ذلك، كالقيام بزيارات إلى ضريح ياسوكوني وإلى متحف يوشوكان الذي
يمجّد الحرب.


علماً بأن ضريح ياسوكوني عبارة عن معبد شنتو الذي بُني عام 1869، ويقع
في حي تشيودا بالعاصمة اليابانية طوكيو، ويضم مقبرة أقيمت لتكريم
2,466,000 رجل وامرأة سقطوا في المعارك من أجل إمبراطورية اليابان.


ويثير هذا المعبد جدلاً بسبب إيوائه ل 14 مجرم حرب من الدرجة الأولى
كانت صدرت بحقهم أحكام بالإعدام في المحكمة التي أقامتها دول الحلفاء بعد
الحرب العالمية الثانية في 1945، كما تعتبره الدول المجاورة رمزاً سيئاً
للحقبة التوسعية الاستعمارية اليابانية إبان الحرب العالمية الثانية.


أين الخطورة في كل ذلك؟ الخطورة تكمن في اجتماع هذا الانبعاث الجديد
القديم للروح القومية الشوفينية والعسكرتارية مع إمكانية حدوث حالة انسداد
لأفق النهوض الاقتصادي المعتاد وما يترتب على ذلك من تداعيات اجتماعية.


وهي «التوليفة» التي «حرّضت» الدولتين لغزو البلدان المجاورة.


وتكمن الخطورة أيضاً في الإشارات الواضحة التي ترسلها الدولتان بأنهما لا تتعظان بتاريخهما المرير.