المنشور

البنى العتيقة لمؤسسات النظام الدولي


الفرق بين مافيا التهريب في شيكاغو في الفيلم الشهير «المحصنون» (The Untouchables) وكبار مسؤولي الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» الذين أُطيح بهم «فجأة» (!) على أيدي السلطات الأمنية والعدلية الأمريكية، على خلفية قضايا رشوة وغسيل أموال، هو أن «المحصنين» في الفيلم الأمريكي الثمانيني الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، هم العصِيُّون على الارتشاء والإفساد من بين طاقم الشرطة الفاسد والعامل في مدينة شيكاغو إبان سريان قانون حظر بيع وإنتاج واستيراد ونقل المشروبات الكحولية في الولايات المتحدة خلال الفترة من 1920 إلى 1933 بدفع من سكان الأرياف البروتستانتيين والمراكز والهيئات الدينية النافذة ومراكز القوى المتماهية مع الشارع في الحزبين الجمهوري والديمقراطي التي ذهبت في شوط مواكبتها للشارع لحد تعديل الدستور الأمريكي لتقنين حظر الكحول، قبل أن تطيح أزمة الكساد العظيم (Great Depression) بكل هذه المزايدات الاجتماعية وتجبر الجميع على إلغاء هذا التعديل الدستوري – بينما «المحصنون» في «الفيفا» هم أنفسهم الطاقم القيادي التنفيذي المتربع على عرش مؤسسة عالمية متعددة الجنسية تحتكم على أصول سائلة وغير سائلة تُعد بالمليارات، والذين وبسبب طول فترة هذه الهيمنة التي امتدت زهاء أربعين عاما، منذ بداية ولاية الرئيس السابق للفيفا البرازيلي جواو هافيلانج، فقد سكنهم وهم الطمأنينة بأنهم محصنون ضد الملاحقات القانونية على خلفية أنشطتهم غير الشفافة، مهما كانت المحاولات المتواضعة لكشف مستورها.

والحديث يطول بشأن موضوع فضائح الفساد في الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» التي بادرت الولايات المتحدة ممثلة بأجهزتها الأمنية والعدلية، من تلقاء نفسها ومن دون أن يكلفها أحد بذلك، إلى كشفها بطريقة دراماتيكية مثيرة ومقصودة، وكذلك الجدل المتفجر والمتشعب بشأن ملابساته. حتى راح القائمون على المؤسسات الدولية المعنية بإشاعة الشفافية والنزاهة في فضاء العلاقات الدولية وممارساتها الفضلى (Best practices)، يحلمون ويمنون النفس بأن يأخذ هذا الجدل مجراه وألا يتوقف عند منظمة أو شخص مستهدفين بعينهما ضمن تصفية الحسابات غير المعلنة التي ما انفكت «قائدة الأمة» العالمية تدير طاحونتها كلما خرج بعض «الضَّالِّين عن طاعتها». فلقد كشف تداعي قطع الدومينو الذي ربما يكون انعطف قليلاً، بصورة مخالفة لمساره المبتغى، عن ورود أسماء كل الدول تقريباً التي طلبت تنظيم مسابقة كأس العالم لكرة القدم، باعتبارها متورطة في منح رشاوى أو محاولة تقديمها أو تبادل مصالح اقتصادية مع «الأوساط» المسهلة لإرساء «مناقصة» التنظيم عليها. ولذلك بدا غريباً بعض الشيء صمت القضاء الأمريكي عن الطريقة التي اتبعتها الولايات المتحدة للفوز بتنظيم مونديال 1994 وكتمان الحديث عن الطريقة التي أُرسيت بها على فرنسا «مناقصة» تنظيم نسخة 1998 من المونديال، مع ان عضو اللجنة التنفيذية في الفيفا وأمين عام اتحاد الكونكاكاف سابقاً الأمريكي تشاك بلايزر، اعترف في التحقيقات بأنه تقاضى إلى جانب أعضاء آخرين من اللجنة، رشوة لمنح استضافة مونديال 1998 في فرنسا، والتي أسفرت عن حصول فرنسا على 12 صوتاً مقابل 7 أصوات لصالح المغرب!

إلى ذلك، فما بين تمنيات عديد أوساط المؤسسات والواجهات الدولية المشتغلة على إشاعة الممارسة الشفافة والنزيهة في العلاقات الدولية، بألا تقف «فزعة» الحوكمة والحكم الرشيد عند حد رفع الغطاء عن الممارسات الفاسدة في الفيفا قصراً وحصراً، وما بين نزوع الممسكين بالمقود العالمي واتجاهات تسييره، يوجد بون شاسع، وذلك برسم استمرار المنظمة الأم للنظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي شادته الولايات المتحدة بالتفاهم مع بريطانيا والاتحاد السوفييتي السابق، وهي هنا منظمة الأمم المتحدة، بنفس هياكلها وتركيبتها والأوصاف الوظيفية المعلبة لطاقمها التنفيذي والإداري، بما فيه منصب أمينها العام، من دون أن يطالها إصلاح حقيقي يتواكب مع تعاظم الوظائف التي يتوجب عليها النهوض بها لمقابلة التحديات الكبرى التي أدى تراكمها ومسايرتها من دون معالجة متطلبات مواجهتها، إلى وضع العالم ثانيةً على شفا حرب عالمية إذا ما اندلعت شرارتها الأولى فلربما لن يكون الكوكب الأرضي بعدها صالحاً للحياة.

وهذا ينطبق على بقية المنظمات الدولية التي أنشأها النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما. حتى حق تسميتها بمخلفات تلك الحرب التي لاتزال خاضغة لذات «الريجيم» البيروقراطي والاستحواذي الانفرادي الكابح والمعطل لمعظم مبادرات عديد الأطراف الدولية، الرسمية والخاصة، لتطوير أداء وفعالية عمل الأسرة الدولية ومؤسساتها الحاكمة.

فما دامت القوى العظمى الممسكة بالمقود العالمي، تجد مصلحتها كامنة في الإبقاء على هذا الواقع المرير «لأجهزة عمل الحكومة العالمية»، فإن من الصعب تصور نهاية وشيكة لهذا الواقع، حتى ولو نخره الفساد مثلما كشف «رفع الغطاء عن قِدر» الفيفا.
 
 26 يونيو 2015